الصاروخ الأوكراني وتداعياته.. جنت على
نفسها براقش
رامي الشاعر – كاتب ومحلل سياسي
في خضم معمعة اجتماعات قمة مجموعة العشرين،
وتحديدا مساء يوم 15 نوفمبر الجاري، وبينما يسود التوتر أجواء تلك الاجتماعات أثناء
العمل على البيان الختامي للقمة، فشل الصاروخ الأوكراني في تحقيق أهدافه.
عقدت مجموعة السبع وعدد من دول “الناتو”
اجتماعا طارئا على هامش قمة مجموعة العشرين، بينما سارع مسؤولون بولنديون ووسائل إعلام
بولندية وأوكرانية ومن دول البلطيق بتوجيه أصابع الاتهام إلى روسيا، مطالبين (قبل إجراء
أي تحقيق أو تحليل أو حتى رصد لمسار الصاروخ) بتفعيل المادة الرابعة من ميثاق حلف
“الناتو” التي تدعو إلى إجراء مشاورات طارئة في حالة تهديد إحدى الدول الأعضاء.
أهداف الصاروخ والبلبلة التي أحدثها واضحة:
تكتيكية للتأثير على الاجتماع السابع بصيغة “رامشتاين”، المقرر انعقاده في اليوم التالي،
16 نوفمبر، لاتخاذ قرارات بتزويد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة، وبنوعية مختلفة من أسلحة
الدمار الهجومية، التي تطيل أمد الحرب، فتشعل النار بدلا من أن تخمدها، وفرض منطقة
حظر للطيران فوق أوكرانيا من قبل “الناتو”، خاصة وأن وقود الحرب الإعلامية الأوكرانية
والغربية ينضب مع دخول الشتاء، بعد أن وصلت أوكرانيا إلى سقف ما يمكن الوصول إليه بكل
إمدادات الأسلحة وإمكانيات الغرب المفتوحة. وأهداف أخرى استراتيجية لوقف أي تغيير إيجابي
بالجلوس إلى طاولة المفاوضات وبدء الحوار، استنادا إلى الواقع الراهن على الأرض، ودون
أي خيالات أو هلاوس مرضية من قبل الرئيس زيلينسكي وفريقه.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية واضحة
في بيانها بشأن الصاروخ، وانتظر “الناتو” خروج معلومات دقيقة بشأنه، ذلك أن منطق الأشياء
يقول إن أوكرانيا كانت تتعرض في ذلك اليوم إلى قصف من الشرق على محطات الطاقة والبنى
التحتية العسكرية، وهو ما يعني ضرورة ومنطقية أن توجه منظومات الدفاع الجوي الأوكراني
راداراتها نحو الشرق، بمعنى أن الصواريخ الروسية تنطلق من الشرق إلى الغرب، والأوكرانية
من الغرب إلى الشرق، لهذا يصبح من غير المنطقي أن يصيب الصاروخ الأوكراني بولندا الموجودة
على الحدود الغربية.
يطرح ذلك سؤالا غير بريء عمن تفتق ذهنه
عن تلك الحيلة كي يدفع بـ “الناتو” إلى مواجهة روسيا، هل نتحدث عن مستوى قيادة النظام
في كييف، أو على مستوى القيادة العسكرية، أم مستوى القوميين الأوكرانيين المتطرفين،
لتحقيق الأهداف المذكورة سلفاً. وهل فعلت ذلك أوكرانيا وحدها، أم بالتنسيق مع أحد في
بولندا على سبيل المثال، والتي انطلق مسؤولوها وإعلامها على الفور بالتوازي مع المسؤولين
والإعلام الأوكراني لتوجيه أصابع الاتهام إلى روسيا؟!
وهل أغفلت تلك الخطة البعد الاستراتيجي
لتلك المواجهة بين روسيا و”الناتو”، وهل وضعت في اعتبارها أن “الناتو” هو حلف عسكري،
ولديه أدواته العسكرية المحترفة القادرة على تحديد مكان انطلاق الصواريخ ومسارها، ومن
الصعب أن تنطلي حيلة رخيصة كهذه عليه؟ بل قل هل يعي هؤلاء أن إدراكهم لأهدافهم الخبيثة
يعني ببساطة اندلاع الحرب العالمية الثالثة؟ أم أنهم يرون أن “انتصار أوكرانيا” أصبح
مستحيلاً، وهم على استعداد لتدمير العالم انتقاماً لذلك.
في أنقرة، وقبل ذلك الحادث بيوم واحد، التقى
مدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز بمدير الاستخبارات الخارجية الروسية
سيرغي ناريشكين، ودار الحديث حول “عواقب استخدام روسيا للأسلحة النووية ومخاطر التصعيد”.
وفي نفس التوقيت التقى الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الصيني شي جين بينغ، وأكدا على
عدم خوض حرب نووية أبدا، وشددا على معارضتهما على استخدام الأسلحة النووية أو التهديد
باستخدامها في أوكرانيا. بمعنى أن العالم شرقا وغربا يتفق بشأن خفض التصعيد النووي،
في نفس الوقت الذي يرتكب فيه النظام الأوكراني حماقة دفع العالم نحو حافة المواجهة
النووية.
لم تتحقق أي من الأهداف، وصدر البيان الختامي
“متوازنا”، حتى وصفه المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف بأنه “انتصار للفطرة
السليمة والحل الوسط” مؤكدا أن روسيا سوف تواصل عملها على منصة مجموعة العشرين، وأرجع
الفضل للدبلوماسية الروسية المخضرمة، وجدارة الإندونيسيين، ودبلوماسية الهنود، والشركاء
الصينيين، وغيرهم من البلدان التي عرضت “وجهات نظر أخرى وتقييمات مختلفة للوضع والعقوبات”.
أثبتت الدبلوماسية الروسية قدرتها على مواجهة أكبر حرب دبلوماسية وإعلامية تخاض ضدها
من الإعلام الغربي.
قبل ذلك، لم يكن يدور في فلك الإعلام الغربي،
ومعه العربي بطبيعة الحال، أي حديث سوى عن “انسحاب” خيرسون، الذي أسلفت في مقالة سابقة
أنه إعادة تموضع استراتيجي، وليس انسحاباً، واستخدمت وسائل الإعلام الأوكرانية والغربية
كل ترسانتها الإعلامية في شحن العالم ضد روسيا، وتصدير أوهام “التخلص من الأسطول البحري
في سيفاستوبول”، و”استعادة شبه جزيرة القرم”، وتلك أوهام باطلة، لا أساس لها في الواقع.
كل ما هناك أن القيادة العسكرية الروسية
الرشيدة، رأت أنه من الحصيف عدم التضحية بالجنود والمعدات في معركة لا طائل منها، وتهدد
بحصار وحدات الجيش على الضفة اليمنى من نهر الدنيبر، فأعادت تموضعها بالانتقال إلى
الضفة اليسرى، لأن تبعات التعبئة الجزئية سوف تظهر آثارها خلال أسابيع معدودة في الشتاء
بعدما تعود الأرض للتصلب، وستتمكن روسيا من العودة مرة أخرى لتلك الأراضي بعتاد وأفراد
أكبر بكثير، خاصة وأن روسيا كبدت أوكرانيا بخسائر بشرية كبيرة، حتى بلغت نسبة الخسارة
الروسية إلى الأوكرانية في المعارك الأخيرة 1-8 على التوالي. لهذا فما نراه اليوم على
الأرض هو فعلياً سقف إمكانيات الجيش الأوكراني، الذي يطالب بأسلحة ومعدات هجومية تتمكن
من ضرب عمق الأراضي الروسية، ظناً منه أن الأسلحة والمعدات تعوّض النقص في الأفراد.
على الجانب الآخر، فما تقوم به روسيا اليوم
من قصف لمحطات الطاقة والبنى التحتية العسكرية على الأراضي الأوكرانية، ووسائل النقل
التي تساعد في نقل الأسلحة يطرح سؤالا كان من المنطقي أن يطرحه الأوكرانيون على أنفسهم:
لماذا لم تفعل روسيا ذلك منذ فبراير، وعلى مدار عشرة أشهر من العملية العسكرية الخاصة؟
السبب بسيط، أن روسيا لم تكن، وليست بعد
في حرب مع أوكرانيا، بل تتعامل مع تلك الدولة كدولة مختطفة من قبل جماعة انقلابية قومية
متطرفة، تخدع الشعب، وتلقي به في أتون التهلكة. وظلت روسيا على هذا النهج، حتى تطاولت
أوكرانيا بعملياتها الإرهابية ضد الأهداف المدنية، وتحديدا جسر القرم في أكتوبر الماضي،
وهو ما دفع العملية العسكرية إلى نطاقات أخرى، استوجبت الرد على تلك الهجمات. وهو ما
يحدث الآن.
إن أوكرانيا تتحرك حثيثاً نحو عصور مظلمة،
حيث سيعجز النظام في المستقبل القريب عن الحركة، وهو ما يدفع الغرب بقيادة الولايات
المتحدة الأمريكية إلى دعوة زيلينسكي ومن معه للتفاوض، فإذا لم يمتثلوا لذلك، فإن روسيا
ماضية في عمليتها العسكرية التي يمكن في لحظة من اللحظات أن تتحول إلى حرب شاملة، تذهب
بالنظام السياسي والدولة الأوكرانية. فما يدور في عقل النظام المجنون في كييف، من دفع
لـ “الناتو” نحو المواجهة مع روسيا، وما يبثه الإعلام الأوكراني ليل نهار من سم زعاف
لمواطنيه هو خطر لا على أوكرانيا وحدها، بل على أوروبا والعالم. فالعالم سئم المواجهة،
وسئم سيرة أوكرانيا، وفحيح زيلينسكي الذي يخرج علينا ليلعب دور “القائد المظفر” على
جثث مواطنيه، ويرغب في السلام والأمان والاستقرار وعودة الأمور لمجاريها، بعد أن اتضحت
جميع الحقائق وثبت للقاصي والداني حقيقة النظام الدموي الإرهابي في كييف.
أما ما نسمعه من اتهامات بـ “الإرهاب” من
جانب الدولة الروسية، فما تقوم به روسيا من عملية جراحية دقيقة لا يمكن أن يقترب بحال
من الأحوال مما فعله الأمريكيون بيوغوسلافيا أو العراق أو اليابان أو ألمانيا في يوم
من الأيام، ولم تلجأ روسيا إلى قصف البنى التحتية العسكرية ومحطات الطاقة إلا بعد أن
استنفذت جميع الحلول الممكنة وغير الممكنة قبلها، إلا أن النظام في كييف لا يرتدع،
ويعيث في الأرض فساداً وشراً، ويؤذي شعبه قبل أن يؤذي الشعب الروسي، لهذا استوجب الرد،
والعين بالعين.
إننا ندعو الولايات المتحدة الأمريكية وبجانبها
أوكرانيا إلى طاولة المفاوضات، درءا لما سيحل بأوكرانيا إذا مضت في طريق الحيل الرخيصة
مثل حيلة الصواريخ التي سقطت في بولندا، وإلا فقد جنت على نفسها براقش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق