خطأ في الترجمة.. مرسوم بوتين يضع النقاط على الحروف لا يحتوي على أحكام عرفية
رامي الشاعر - كاتب ومحلل سياسي
حينما أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين،
عن التعبئة الجزئية، وقال إن وزارة الدفاع الروسية ستحدد العدد الذي تقتضيه الضرورة
للحشد من جنود الاحتياط، حتى توالى التضليل والتزييف والخداع والكذب الفج من جانب وسائل
الإعلام الغربية.
فاستمعنا إلى أرقام تناهز المليون، واستمعنا
إلى تعبيرات من عينة “التعبئة العامة” وليست “الجزئية”، وقيل إن الحكومة الروسية إنما
تخادع مواطنيها وتلقي بأبنائهم إلى أتون الحرب دون عتاد أو تدريب، وغيرها من الأكاذيب
التي أطلقتها وسائل الإعلام الغربية، ونقلتها بطبيعة الحال عنها وسائل الإعلام العربية،
ثم انبرى المحللون الاستراتيجيون والعسكريون في التفسير والتحليل ووصف “الهزيمة الروسية
المنكرة”، في نفس ذات الوقت الذي ضمت فيه روسيا مناطقها الأربعة، باستفتاء شرعي يعبر
عن إرادة مواطني تلك المناطق، ورسمت بذلك حدودها الجديدة، وفرضت إرادة الشعوب على انقلابات
ومؤامرات الغرب.
يوم الثلاثاء، 19 أكتوبر، وبمجرد أن نطق
الرئيس الروسي بمرسومه الرئاسي الذي يقضي بإعلان حالة الحرب في المناطق الأربعة التي
انضمت مؤخراً إلى روسيا، حتى انبرت الأقلام، وانطلقت الحناجر تتحدث عن “الأحكام العرفية
في عموم روسيا”، وعن “رفع درجة التأهب القصوى في جميع أنحاء البلاد” وغيرها من الاستنتاجات
الخاطئة في أساسها، والتي تعبر لا عن جهل بواقع الأمور على الأرض وبالترجمة عن اللغة
الروسية التي كتب بها مرسوم القانون، وإنما عن تضليل متعمد خبيث يستهدف البلبلة ووصف
صورة تختلف كلياً عما هو موجود على أرض الواقع.
وواقع الأمر هو أن هذا المرسوم هو ببساطة
شديدة تقنين لما كان ساريا على أرض الواقع، خاصة ما يخص الجمهوريتين والمنطقتين الجديدتين،
ذلك أن حالة الحرب، في واقع الأمر، كانت سارية هناك، في ظل الهجمات التي لا زال الجيش
الأوكراني يقوم بها، ويستهدف أهدافا مدنية جهارا نهارا، وليس فقط دون أي انتقاد أو
شجب من جانب ما يسمى بـ “المجتمع الدولي”، وإنما بمباركة وتهليل من جانب بعض الدول
الأوروبية التي تتشدق بحقوق الإنسان، وعلى رأسها بولندا ودول البلطيق.
وعندما انضمت الجمهوريتان والمنطقتان إلى
روسيا، ولتجنب الفراغ القانوني الواقع هناك، ودفاعا عن الأراضي الروسية الجديدة، كان
من الواجب تحديد مستويات استجابة السلطات التنفيذية المحلية، وعلاقتها بالسلطات الفدرالية،
خاصة فيما يتعلق بمسائل الأمن والدفاع وعلاقة تلك السلطات بالسكان في إطار الدستور
والقوانين الروسية، دون أي إلغاء أو تعليق أو إيقاف للعمل بالدستور، كما يحدث عادة
في “فرض الأحكام العرفية”.
ونظرا لأن تلك المناطق تقع في وسط الحرب،
كان لزاما على القيادة الروسية أن تضع تلك المناطق الواقعة فعلياً تحت نظام الحرب في
حالة الحرب، وتضع بالتوازي مناطق أخرى في مستوى استجابة واستعداد تختلف باختلاف المناطق
واختلاف التحديات والتهديدات التي تواجهها، حيث ذكر المرسوم 4 مستويات تتدرج تنازليا
ما بين الاستجابة القصوى، فالاستجابة الوسطى، ثم مستوى الاستعداد الفائق، وأخيرا مستوى
الاستعداد الأساسي.
وقد وضع المرسوم أراضي جمهوريتي دونيتسك
الشعبية ولوغانسك الشعبية، ومنطقتي زابوروجيه وخيرسون في مستوى “الاستجابة القصوى”،
وهو ما يمنح قادة تلك المناطق من المسؤولين التنفيذيين السلطة لتنفيذ كافة تدابير التعبئة
الاقتصادية ومطلق السلطة تجاه السلطات التنفيذية المحلية للدفاع وحماية السكان والأراضي
في مكافحة حالات الطوارئ الطبيعية والمتعمدة، سواء بفعل عمليات تخريبية أو هجمات إرهابية
وخلافه، كما يمنح مستوى “الاستجابة القصوى” هؤلاء المسؤولين سلطة تنفيذ كافة التدابير
اللازمة لتلبية احتياجات القوات المسلحة الروسية وغيرها من القوات الأخرى والتشكيلات
العسكرية والهيئات واحتياجات السكان. الجدير بالذكر أن مساحة تلك الأراضي هي حوالي
100 ألف كيلومتر مربع، ويقطنها ما بين 5-7 مليون نسمة.
ويقضي ذلك المستوى من “الاستجابة القصوى”
بإنشاء هيئات تنسيق مشتركة بين الإدارات تمثل مقرات للدفاع الإقليمي في أراضي الكيانات
التابعة للاتحاد الروسي المذكورة في الفقرة 1 من هذا المرسوم، وفقا للقانون الفدرالي
رقم 61، والصادر في 31 مايو من عام 1996، “بشأن الدفاع”، وغيره من الإجراءات القانونية
التنظيمية للاتحاد الروسي.
ثم وضع المرسوم أراضي جمهورية القرم وإقليم
كراسنودار وبيلغورود وبريانسك وفورونيج وكورسك وروستوف ومدينة سيفاستوبول في مستوى
“الاستجابة الوسطى”، وهو ما يمنح مسؤولي تلك المناطق نفس سلطات “الاستجابة القصوى”
دون إنشاء مقرات للدفاع الإقليمي، على أن تضمن السلطات المحلية:
ا- تعزيز حماية النظام العام وضمان الأمن
وحماية المرافق العسكرية والحكومية والخاصة والهامة، وتلك التي تضمن الوظائف الحيوية
للسكان، وتشغيل وسائل النقل والمواصلات والاتصالات، ومرافق الطاقة، وكذا المرافق التي
تشكل خطراً متزايداً على حياة الناس وصحتهم وعلى البيئة الطبيعية.
ب- تطبيق نظام تشغيل خاص للمرافق التي تضمن
عمل وسائل النقل والمواصلات والاتصالات ومنشآت الطاقة، وكذلك المرافق التي تشكل خطراً
متزايداً على حياة الناس وصيحتهم وعلى البيئة الطبيعية.
ج- إعادة التوطين المؤقت للسكان في مناطق
آمنة، مع توفير إلزامي لهؤلاء السكان بأماكن سكن ثابتة أو مؤقتة.
د- تطبيق وصيانة نظام خاص للدخول إلى الإقليم
والخروج منه، وكذلك تقييد حرية الحركة فيه.
ه- تقييد حركة المركبات وتفتيشها.
ز- تطبيق الرقابة على تشغيل المرافق التي
تضمن سير النقل والمواصلات والاتصالات، وعلى تشغيل المطابع ومراكز الحواسيب الآلية
والأنظمة الآلية، واستخدام أعمالها لتلبية الاحتياجات الدفاعية.
وتبلغ مساحة الأراضي الواقعة في نطاق هذا
المستوى من الاستجابة حوالي 350 ألف كيلومتر مربع، ويقطنها حوالي 18.5 مليون نسمة.
ثم وضع المرسوم أراضي المقاطعتين الفدراليتين
الوسطى والجنوبية (باستثناء جمهورية القرم وإقليم كراسنودار وبيلغورود وبريانسك وفورونيج
وكورسك وروستوف ومدينة سيفاستوبول) في مستوى “الاستعداد الفائق” وهو الذي يشبه في درجة
استعداده مستوى “الاستجابة الوسطى” باستثناء الحق في إعادة التوطين المؤقت للسكان،
وتطبيق نظام خاص للدخول والخروج من الإقليم وتقييد حرية الحركة فيه. وتبلغ مساحة تلك
المناطق حوالي 750 ألف كيلومتر مربع، ويقطنها 38.5 مليون نسمة.
ووضع المرسوم بقية الأراضي الروسية (وهي
15.8 مليون كيلومتر مربع، ويقطنها حوالي 83 مليون نسمة) في وضع “الاستعداد الأساسي”
الذي يمنح مسؤولي تلك المناطق الحد الأدنى من التدابير المقيدة للحريات.
يعني ذلك ببساطة شديدة أن حالة الحرب ستطال
ما لا يزيد عن 10 مليون مواطن روسي، يقيمون على أقل من نصف مليون كيلومتر مربع في دولة
تبلغ مساحتها 17 مليون كيلومتر مربع. ولهذا يبدو الحديث عن “إعلان الأحكام العرفية
في روسيا” مجرد تضليل وخداع إعلامي لا أكثر، تماما كما دار الحديث عن “التعبئة” دون
ذكر كلمة “الجزئية”، بغرض التضليل والخداع.
وعلى الرغم من انتشار الترجمة الخاطئة،
وتردد ذلك التعبير في جميع وسائل الإعلام الغربية والعربية، إلا أن وقع نشر بعض المحللين
السياسيين، من لاعقي أحذية الغرب، وأيتام داعش، لأخبار بشأن “إعلان روسيا للأحكام العرفية
ضد الشعب الأوكراني، الذي يرفض ضم أرضه لروسيا، ويرفض الاستفتاء الذي جرى في أجواء
الاحتلال الروسي” هو أكثر ما يثير التقزز والاشمئزاز، ويعبر بما لا يدع مجالاً للشك
أن أسوأ ما صنعه وتفنن في صنعه الاحتلال، غربياً كان أم صهيونياً، هو صناعة العملاء
والوكلاء والجواسيس والخونة والطابور الخامس، حيث يبدو هؤلاء بمثابة السوس الذي ينخر
في عظام الأمة من الداخل، متماهياً داخل جسد الأمة، فيساعد بذلك العدو الخارجي، دون
أن يشعر الجسد بما يفت من عضده ويدمره ويفتك بأعضائه. وليس أدل من مواقف كهذه لتكشف
الغطاء عمن يأتمرون بأوامر الغرب، وينقضون على من يأمرهم أسيادهم في واشنطن وتل أبيب
بالانقضاض عليهم.
إن المرسوم الذي أعلنه بوتين في واقع الأمر
يهدف إلى فرض ما يشبه “حالة الطوارئ” المطبقة في كثير من الدول بمنطقتنا العربية، لحين
إنهاء العملية العسكرية الخاصة بأوكرانيا، وتحقيق أهدافها جميعا، والسيطرة التامة على
حدود الدولة الروسية، وسيادة القوانين الروسية الفدرالية على جميع الأراضي الروسية،
ومن ثم إجراء الانتخابات البرلمانية والتشريعية فيها حسب الدستور الروسي، وما يتبع
ذلك من إجراءات بتحديد الهياكل والسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بالتطابق
مع ما يجري في بقية الكيانات الروسية التي تمثل الاتحاد الروسي.
وفي هذا السياق أود كذلك أن أوضح أن روسيا
حاولت بكل ما وسعها، منذ عام 2014، أن تجد حلاً سلمياً يضمن إبقاء أوكرانيا على وحدة
أراضيها، ويضمن وجود دونباس داخل حدود أوكرانيا، ويضمن في الوقت نفسه تمتع السكان ذوي
الهوية الروسية بحقوقهم الوطنية والثقافية والسياسية، دون جدوى، ودون استجابة من سلطة
الانقلاب في كييف، والتي وضعت نصب أعينها هدفا وحيدا هو إرضاء أسيادها في واشنطن، حتى
لو كان ذلك على حساب مواطنيها.
ما نراه اليوم هو نتيجة حتمية لقيام النظام
النازي في كييف بعمليتين عسكريتين ضد الدونباس في محاولات يائسة لإخضاع سكان تلك المناطق،
بينما استمرت فيما بعد سياسة القصف والقتل والدمار والتجويع على مدى 8 سنوات، كانت
نتيجتها انفصال تلك المناطق، حماية لأهاليها من القتل والملاحقة.
كذلك جاء قرار التعبئة الجزئية بعدما اتضح
لروسيا أنها تحارب “الناتو” بأيدي كييف، وكان لزاما على روسيا أن تحمي خط المواجهة
الذي يزيد طوله عن 1000 كيلومتر، والذي يموله الغرب، ويدفع إلى خطوطه بالمعدات والأسلحة
والذخيرة والمرتزقة الأجانب.
أما إعلان حالة الطوارئ فهي رسالة واضحة
للجميع أن الأمر قد حسم، ولن تتراجع روسيا في الدفاع عن أراضيها، بما في ذلك الأراضي
التي انضمت إليها بشرعية الاستفتاء الذي يجسد إرادة سكان تلك المناطق، ورغبتهم الحقيقية
في الانفصال عن أوكرانيا، والانضمام إلى روسيا، التي يعود إليها تاريخهم. تلك جميعاً
رسائل كان من المفروض على سلطات كييف بالدرجة الأولى والغرب بالدرجة الثانية أن يستوعبوها،
بأن روسيا جادة في الخطوات التي تتخذها، ولا يوجد أي مجال للتراجع بعد 8 سنوات من ضبط
النفس، ولعل تراجع إسرائيل عن إرسال مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا، واستقالة رئيسة الوزراء
البريطانية، ليز تراس، لهو دليل على تخبط السياسات الغربية، وأن البعض قد بدأوا في
الاستفاقة واستيعاب أخطاء المراهنة على هزيمة روسيا، والتملص من تورطهم في فضيحة “الحرب
الأوكرانية”، وأنا على يقين أنها مجرد بداية، سيتلوها استقالات وسقوط حكومات أوروبية
أخرى.
لقد أعلن بوتين حالة الحرب في المناطق الأربعة
التي عادت إلى الحضن الروسي من جديد بهدف وضع كل الإمكانات في يد السلطة بهذه المناطق
لتأمين الاحتياجات الضرورية وبناء الحدود والتجهيز لبدء عملية تحرير باقي الأراضي التابعة
لهذه المناطق، وهو ما يتطلب كذلك عمليات إخلاء لبعض هذه المناطق من السكان المدنيين،
حفاظاً على سلامتهم وأرواحهم وعدم تعرضهم للتهديدات العسكرية المختلفة، وقد بدأت بالفعل
عملية إخلاء 80 ألف مواطن خلال الأيام القليلة الماضية.
ما جاء في مرسوم الرئيس بوتين لم يكن سوى
وضعاً للنقاط فوق الحروف لا أكثر ولا أقل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق