روسيا منفتحة على الحوار.. فهل بينكم رجل
رشيد؟
رامي الشاعر – كاتب ومحلل سياسي فلسطيني
صرح الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي،
بأنه “لا حوار مع روسيا قبل أن يكون فيها رئيس آخر”.
حسناً، فلنقلب الآية، ولنقل على سبيل المثال،
لن نقبل التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يكون فيها رئيس آخر غير جو بايدن.
ترى هل كان المجتمع الدولي الحر الديمقراطي والمتحضر ليقبل صيغة كهذه؟ أليس ذلك تدخلا
في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة؟
لكن السيد زيلينسكي حينما يقول ذلك، فإنه
لا يقوله من فراغ، وإنما يقوله بمكالمة تليفونية من السفارة الأمريكية التي تحركه بجهاز
التحكم عن بعد “الريموت كونترول”، يقوله وهو يستند إلى “القوة العظمى” التي لا تريد
لهذه الحرب أن تنتهي، وتفعل كل ما بوسعها وبوسع توابعها الأوروبيين وحلفائها الدوليين
كي يزداد سعير هذه الحرب، فتحرق بها الولايات المتحدة الأمريكية روسيا بيد الأوكرانيين
كحطب لتحقيق ذلك، غير أنها ربما لم تتعرف بعد على الأرقام الحقيقية للضحايا من جانب
“حلفائها” الأوكرانيين، وربما يخفي ذلك عنها زيلينسكي وأعوانه، كما يخفون ذلك عن شعبهم
المسكين، الذي لا زال يعيش أوهام “النصر المبين” بعد الانسحاب التكتيكي للجيش الروسي
من منطقة خاركوف، والذي ترجمته وسائل الإعلام الأوكرانية والغربية بأنه “نصر ساحق ماحق”
للجيش الأوكراني المغوار. لكن ماذا يهم واشنطن من أرقام الضحايا من الجنود والمواطنين
الأوكرانيين، ماذا يهم واشنطن في أن يصحو الأوكرانيون على أصوات الغارات الجوية، بعد
أن قصفوا ويقصفون أهدافاً مدنية في داخل الأراضي الروسية. على العكس، تسعى واشنطن إلى
صنع “هولوكوست” أوكراني، وهو ما يحدث في واقع الأمر.
منذ يومين استقال وزير الدفاع الروماني
بعد أن صرح بأن الأزمة الأوكرانية “لا يمكن أن تنتهي سوى بالمفاوضات”، فما كان من البرلمان
إلا أن طالب باستقالته، فحادثه رئيس الوزراء، وتقدم باستقالته وبرر ذلك باستحالة التعاون
مع رئيس البلاد والقائد الأعلى للجيش. لم يعد من الممكن الحديث بأي شيء الآن سوى الحرب،
ولا يجب أن يعلو أي صوت على صوت أوكرانيا.
وبعد أن قررت المفوضة الأوروبية للشؤون
الداخلية للاتحاد الأوروبي، إيلفا يوهانسون، أن الأزمة الأوكرانية ستنتهي “بهزيمة”
روسيا، لم يتمكن سكرتير الخارجية المجرية للعلاقات الثنائية، تاماش مينزر، من السكوت
ووصف ذلك التصريح بالأمر الخطير، وبتأييد الحرب، مشيرا إلى أن ذلك التصريح يربط نهاية
الأزمة بحدث عسكري “لا نعرف متى سيحدث، ولا نعرف ما إذا كان سيحدث على الإطلاق أم لا”،
ومشددا على أن موقف المجر هو “السلام الفوري” لا “الحرب الأطول”.
من بين تلك الهلاوس أيضا ما جاء في تصريحات
الرئيس جو بايدن حينما أعرب عن اعتقاده بأنه يجب منع روسيا من تحقيق نجاح في أوكرانيا،
خلال تعليقه على تصريحات الجمهوريين بأنه يجب ترشيد الدعم الذي تقدمه واشنطن لكييف،
والذي لا يمكن أن يكون “شيكاً على بياض”. بل وصل الأمر بإعلان البيت الأبيض استعداد
الولايات المتحدة الأمريكية إرسال فرقة عسكرية للمشاركة في العمليات العسكرية إلى جانب
الطرف الأوكراني.
ربما ما نسي الرئيس بايدن الاعتراف به ما
لجأ إليه من تخريب مباشر، وتنظيم تفجيرات على خطوط أنابيب الغاز الدولية لـ “السيل
الشمالي”، والذي يعد تدميرا لبنية الطاقة التحتية لعموم أوروبا. تسكت أوروبا، على الرغم
من معرفتها لمصلحة من يصب هذا التخريب، ولا تستبعد الدنمارك والسويد وألمانيا وقوع
عمليات تخريبية، إلا أنهم لا يرغبون في إشراك روسيا في التحقيقات!
قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يوم
أمس الأربعاء، 26 أكتوبر، خلال حديثه في اجتماع مجلس رؤساء الأجهزة الأمنية وأجهزة
الاستخبارات لرابطة الدول المستقلة، إن محاولات تنفيذ الثورات الملونة لا تتوقف، بل
يتم استخدام أوراق القومية والتطرف على نحو نشط، وإشعال الصراعات المسلحة التي تهدد
بشكل مباشر أمن جميع أعضاء رابطة الدول المستقلة. وتابع: “إن ما يسعى إليه الغرب هو
ما نراه ماثلاً أمامنا في أوكرانيا، التي أصبحت أداة للسياسة الخارجية الأمريكية، وفقدت
البلاد عملياً سيادتها، لتصبح الولايات المتحدة الأمريكية تسيطر عليها بشكل مباشر”.
وهو المطلوب إثباته.
لهذا لم يكن من المثير للاستغراب أن نستمع
إلى دعوة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عقب زيارته للفاتيكان، الولايات المتحدة
الأمريكية لتجلس إلى طاولة المفاوضات لدفع عملية السلام في أوكرانيا، بينما أشار إلى
العلاقة الوثيقة بين البابا فرنسيس والرئيس الأمريكي، جو بايدن، والتي يمكن أن يكون
لها تأثير على بايدن لاستئناف الولايات المتحدة مشاركتها في حل الأزمة الأوكرانية.
فأوكرانيا ليست سوى وقود الحرب الذي تلقي به الولايات المتحدة إلى المحرقة لاستنزاف
روسيا لا أكثر.
إلا أن ما لفت نظري هو الاتصالات التي حدثت
ما بين وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، وعدد من نظرائه الأوروبيين ونظيره الأمريكي
بشأن ما كشفت عنه وزارة الدفاع الروسية على لسان قائد قوات الدفاع الإشعاعي والكيماوي
والبيولوجي، الجنرال إيغور كيريلوف، من أن كييف تخطط لاستخدام “قنبلة نووية قذرة” لتلقي
باللوم على موسكو في ذلك. وأعتقد في حدود رأيي المتواضع أن القضية لا تنحصر في موضوع
“القنبلة القذرة” وحدها، فوزراء الدفاع من العسكريين المحترفين يدركون الوضع العسكري
على الأرض، وأعتقد أن كثيراً منهم بدأوا في استيعاب حقيقة أن حل الأزمة عسكرياً لن
يكون لصالح أوكرانيا بأي حال من الأحوال، وأن القوات الأوكرانية لن تتمكن في غضون الأيام
المقبلة من القيام بهجوم مضاد عاصف كالذي قامت به منذ شهرين، وخسرت الآلاف من جنودها.
وعلى الرغم من التعبئة، وعشرات المليارات
من الدولارات واليوروهات، وآلاف الأطنان من الأسلحة والمعدات والذخيرة، لن يكون بمقدور
الجيش الأوكراني التقدم حتى الربيع القادم، وحينها سيصبح الحديث بلغة أخرى، خاصة بعد
أن يتغلغل تأثير العقوبات الغربية ضد روسيا على الغرب نفسه، وبعد أن يبدأ الأوروبيون
في طرح الأسئلة على قادتهم في الشتاء وما بعد الشتاء، وبعد أن تظهر نتائج الانتخابات
الأمريكية، وربما يعود الجمهوريون ليسائلوا زملائهم الديمقراطيين عن “الشيكات على بياض”
التي كتبوها لصالح نظام زيلينسكي الإرهابي.
أظن أن العسكريين وحديثهم هو حديث آخر حول
الخسائر المرعبة التي يمكن أن تلحق بالبشرية حال اندلاع الحرب العالمية الثالثة، خاصة
وأن روسيا تؤكد بالفعل لا بالقول أنها جاهزة تماماً لحرب عالمية ثالثة، في ظل إشراف
بوتين، القائد الأعلى للقوات المسلحة الروسية، على تدريبات شن ضربات نووية مكثفة، بينما
استلم تقرير وزير الدفاع ورئيس الأركان بالجيش الروسي، بشأن تدريبات قوات الردع الاستراتيجية
البرية والبحرية والجوية، والتي جرى خلالها إطلاق صواريخ باليستية وكروز عابرة للقارات
من بينها صاروخ “يارس” من قاعدة بليسيتسك الفضائية، وكذلك صاروخ “سينيفا” من بحر بارنتس
في ميدان “كورا” بكامتشاتكا، وبمشاركة الطائرات بعيدة المدى التي أطلقت صواريخ كروز
جواً.
في الحرب لا أحد يكسب، والكل خاسر. لكن
الأزمة الأوكرانية بالنسبة لروسيا هي أبعد من أوكرانيا بكثير، فهي باختصار أزمة وجود،
وأزمة أمن قومي، وأزمة أن تكون أو لا تكون الدولة الروسية، ووقف التهديدات التي تأتي
لروسيا من جهة الغرب، ووقف نظام الهيمنة الغربية على مصير العالم وسيادة الحكومات.
ولهذا السبب يتحدث بوتين عن تحول النظام العالمي اليوم إلى نظام متعدد الأقطاب، وعن
بعض الدول التي لا زالت تتشبث بالنظام الأحادي البائد، والذي قطعاً سيزول وستدهس عجلة
الزمن كل من يقف في طريق مسار التاريخ.
إن أزمة الشعب الأوكراني لن تنتهي سوى بتحريره
من عملاء الإرهاب الدولي الذين استولوا على السلطة منذ انقلاب عام 2014، وربما عودة
العلاقات مع روسيا إلى وضعها الطبيعي، ومحاولة إعادة تأهيل العلاقات الروسية الأوكرانية
التي تضررت كثيراً من الأحداث خلال العقد الماضي، فالشعبين الروسي والأوكراني هما في
واقع الأمر شعب واحد. ولا أستبعد أن تقوم القوات الروسية، وربما أي من الأجهزة أو تشكيلات
القوات الخاصة العاملة على الأرض بعملية تكتيكية لتصفية الإرهابيين الذين يتحكمون لا
في مصير الشعب الأوكراني وحده بجميع المدن والبلدات والأراضي الأوكرانية، وإنما في
مصير العالم بأسره، ويحتجزوننا جميعاً رهينة على غرار ما كانت تفعله تنظيمات “داعش”
و”القاعدة”.
من جانب آخر، لن يتورط “الناتو” أو “البنتاغون”
في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، فهم يعرفون تماماً إمكانيات الدب الروسي، وقدرته
على تدمير أي حشود عسكرية أجنبية في أوروبا الشرقية والغربية حال اتخاذ قرار إعلان
الحرب عليها.
أما بشأن التصريحات الأمريكية والأوروبية
الأخيرة، فهي للاستهلاك المحلي فقط، لمعالجة الأوضاع الداخلية التي نشأت إثر تورط القيادات
الأوروبية والأمريكية بالتخطيط ضد روسيا، ومحاولة تضليل المجتمعات والتهرب من مسؤولية
تدهور الأوضاع الاقتصادية وتأثر الحياة اليومية للمواطنين بذلك، على مستوى أزمات الطاقة
والوقود وارتفاع تكاليف الحياة اليومية.
إن روسيا منفتحة على الحوار، وعلى استعداد
للتفاوض دائماً، ولكن دون المساس بمصالحها وأمنها واستقرارها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق