رامي الشاعر – كاتب ومحلل سياسي
حتى لحظة كتابة هذا المقال وصلت ضحايا الشعب الفلسطيني من العدوان الأخير على غزة، الذي بدأ منذ يومين، 44 شهيدا بينهم 15 أطفال و4 سيدات و360 إصابة بجروح متفاوتة.
وحدها السفارة الروسية
علقت على الموقف الغربي من العدوان الإسرائيلي، حيث أشارت إلى قلق الغرب من الوضع
في أوكرانيا، بينما يراقب بلا مبالاة كيف يواصل الإسرائيليون قتل الفلسطينيين. وكانت وزارة
الخارجية الروسية قد أعربت عن قلقها البالغ إزاء التصعيد بين الاحتلال الإسرائيلي
وحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، ودعت إلى الالتزام بـ "أقصى درجات
ضبط النفس"، واعتبرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا
زاخاروفا، السبب في التصعيد هو "قصف الجيش الإسرائيلي
للقطاع في 5 أغسطس الجاري، وهو ما ردت عليه فصائل فلسطينية بقصف واسع
النطاق للأراضي الإسرائيلية.
أما واشنطن ولندن، فقد
انحازتا إلى الموقف الإسرائيلي، وأيدتا "حق إسرائيل في الدفاع
عن نفسها"، إلا أنهما، والحق يقال، دعيتا إلى "تجنب المزيد
من التصعيد".
لقد انتفضت "إنسانية" المجتمع الغربي الذي يطلق على نفسه اصطلاحا لقب "المجتمع الدولي" بشأن ما أطلقوا عليه اصطلاحا أيضا "الغزو"/"الاحتلال" الروسي لأوكرانيا، وتجاوزت تلك "الانتفاضة الإنسانية" حدود التصريحات إلى جيوب الحكومات الغربية بدءا من الولايات المتحدة
الأمريكية وبريطانيا وانتهاء بمؤسسات المجتمع المدني التي دعمت بكل حماس حقوق
الحيوانات الأليفة التي تنتقل مع اللاجئين الأوكرانيين إلى محال إقاماتهم الجديدة
في أوروبا. وبلغت أرقام الوعود أكثر من 100 مليار دولار، منها ما وافق عليه الكونغرس الأمريكي من 40
مليار دولار، والحكومات
الأوروبية التي وعدت بـ 9 مليار يورو، وغيرها من المساعدات العسكرية قبل الإنسانية.
من ذلك ما زودت به الولايات المتحدة الأمريكية الجيش الأوكراني من راجمات
الصواريخ "هيمارس"، التي تقصف أرواح المدنيين داخل مدن جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، دون أن
تصف الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بذلك بأنها في "مواجهة" مع روسيا، وإنما هي تساعد أوكرانيا "الضحية المسكينة" في مواجهة "العدوان/الاحتلال الروسي الغاشم"!
لكن دعم الولايات
المتحدة الأمريكية الحقيقي لأوكرانيا هو بدفع أوروبا كلها عن بكرة أبيها إلى حافة
الهاوية، من أجل المواجهة الحقيقية مع روسيا، دون أن تأبه لما يسببه ذلك، ونراه
اليوم واقعا أمام أعيننا، من معاناة للمواطن الأوروبي البسيط، سواء على مستوى
ارتفاع أسعار الغاز، والنفط، وبالتالي كافة السلع والمواد الغذائية، أو على مستوى
ارتفاع مستويات البطالة، والتعامل مع موجة جديدة من ملايين اللاجئين تغمر أوروبا
التي لم تكد تنهض من موجات لاجئين أخرى ناجمة عن مغامرات أمريكية/غربية لدعم
انقلابات وثورات وقلاقل أخرى حول العالم.
لكن ما يدهش المرء حقا
هو تعامل الإعلام الغربي مع قضية القصف الإسرائيلي لغزة، فما رأينا شعوبا تنتفض،
وهاشتاغات على مواقع التواصل الاجتماعي للوقوف إلى جانب غزة، كما وقف العالم إلى
جانب أوكرانيا، ولم نجد شركات غربية تخرج من إسرائيل احتجاجا على عدوانها لا في الأيام
الثلاثة الأخيرة، وإنما في العقود الخمسة الأخيرة، ولم نجد شركة "إيكيا" السويدية تخرج من إسرائيل، احتجاجا وغضبا على "دعم الشعب الإسرائيلي" لحكومته، ترى هل يعني ذلك أن الدم الأوكراني يحمل لونا مختلفا عن الدم
الفلسطيني، أو أنه ربما ذو كثافة أو جودة مختلفة عنه؟
لم نر الولايات المتحدة الأمريكية تنتفض وتبعث براجمات "هيمارس" كي يدافع بها شعب غزة الأعزل عن نفسه في مواجهة خمسة عشر عاما من الحصار
والقمع والقتل من البر والجو والبحر، في سابقة لم تشهدها البشرية، وداخل أكبر سجن
مفتوح في التاريخ. بل قل لم تنتفض "إنسانية العالم الديمقراطي الحر" وتبعث بسفن عبر البحر لتلبي حاجات غزة الإنسانية، ولم يبلغ حجم الإعانات
لغزة سوى ما يكفي لكي يظل الحال كما هو عليه، كما تريد دولة الاحتلال، بتعريف
الأمم المتحدة، لا بما تطلقه وسائل الإعلام على روسيا من مصطلحات غير سياسية ولا علمية
ولا أساس لها من القانون الدولي.
فما قامت به روسيا لا يتجاوز ما قامت به الولايات المتحدة و"الناتو" في أوروبا، وما حدث في شبه جزيرة القرم، وأقام الدنيا ولم يقعدها، حدث من
قبل في كوسوفو، وما حدث في استقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، هو ذات الأمر بلا
زيادة ولا نقصان، واستنادا لنفس مبدأ "حرية الشعوب في تقرير المصير"، إلا أن روسيا، دونا عن دول "المجتمع الحر" تضحي بجنودها من أجل الدفاع عن أهلها وذويها في دونباس، وينزل على الأرض
جنود مشاة من دم ولحم يواجهون الحرب بشجاعة وبسالة، ولا تضرب روسيا بجبن وخسة من
الجو مثلما فعل "الناتو" في بلغراد وغيرها من المدن على امتداد خريطة العالم، حتى ما إذا "استوت المباني والبشر بالأرض"، نزلت "قوات حفظ السلام" لتكمل المهمة الخبيثة.
إن روسيا تقوم بعمليتها العسكرية الخاصة بدم أبنائها، الذين يؤمنون بعقيدة
راسخة هي الدفاع عن الأمن القومي الروسي، وعن وجود الدولة الروسية، والحفاظ عليها
من التقسيم والتشرذم، الذي كان يخطط له الغرب.
أما إسرائيل فتحاول استغلال
لحظة سياسية إقليمية ودولية خاطفة كي تحقق مكاسب انتخابية حزبية ضيقة، ظنا منها
بأنها "تجري عملية جراحية دقيقة"، تتخلص بها من قيادات في حركة الجهاد الإسلامي، دون أن تدرك أو تقرأ أنها
إنما تلعب، كمراهق أرعن أهوج، بعود ثقاب بجانب برميل من البارود سينفجر أول الأمر
في وجه شعبها وسياسييها ودولتها. فعقيدة المقاوم الفلسطيني مرتبطة بدفاعه عن أرضه وعرضه ومستقبل أبنائه
المرتبط بالقضية الفلسطينية، والمقاوم الفلسطيني لا يعرف حدودا فاصلة بين "الجهاد" و"حماس" و"فتح" و"عرب 48"، فأجيال جديدة من المقاومين الفلسطينيين تطرحها أرضنا المعطاءة عقدا وراء
عقد وعاما وراء عام، أو كما يقولون في أدب المقاومة:
"حاولوا دفننا لكنهم لم يعلموا
أننا بذور"، وهو ما يثبته شعبنا الفلسطيني كل يوم يقدم فيه دماء أبناءه الزكية في
سبيل القضية والوطن.
إن تصريح السفارة الروسية في القاهرة بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة يعبر
عن جوهر الحقيقة للجرائم التي يرتكبها الغرب وإسرائيل ضد الشعبين الفلسطيني
والأوكراني، إلا أن المجتمعات الدولية، ومن بينها بالقطع المجتمعات الأوروبية قد
بدأت في استيعاب حقيقة الأكاذيب التي يطلقها القادة الأوروبيين، وحقيقة ازدواجية
المعايير التي تخدم فقط المصالح الأمريكية، وهو ما فضحته العملية العسكرية الروسية
الخاصة في أوكرانيا.
في رحلة لي، بينما تنافس ابنتي الفلسطينية باسم فلسطين في بطولة العالم
للفروسية، أكد لي بعض الأصدقاء الغربيين، وهم أصدقاء قدامى، اشتركت معهم في نفس
الرياضة منذ زمن بعيد، وهم يمثلون شريحة معتبرة من النخب الأوروبية الناضجة، أكدوا
لي عدم رضاهم عن سياسة بلادهم تجاه روسيا، وهم يتفهمون أن روسيا ما كانت لتقدم على
عمليتها العسكرية لولا اضطرارها، بل ويدركون أن روسيا على حق، وأنها ستنتصر في
النهاية، وتحقق أهدافها كما تفعل دائما، وكما تعلمنا دروس التاريخ.
يدهش أصدقائي، مثلما يدهشني، ازدواجية المعايير في تعاطي الإعلام الغربي مع
قضية العدوان الإسرائيلي على غزة، يدهشهم غياب الإدانات والعقوبات والحصار على
إسرائيل، كما حدث مع روسيا، يدهشهم كيف تنساق قياداتهم الحالية وراء واشنطن، دون
الأخذ في الاعتبار الضرر الذي يصيب المواطنين الأوروبيين جراء العقوبات التي
تفرضها أوروبا، وليس الولايات المتحدة التي تقع على بعد آلاف الأميال من القارة
الأوروبية، على روسيا.
لقد بدأت المجتمعات الأوروبية في طرح أسئلة حقيقية بشأن الهدف من وجود حلف "الناتو"، خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، و"حلف وارسو"، وبدأت الشعوب الأوروبية تعي أن بإمكان روسيا أن تمحو أوروبا من على خريطة
العالم إذا أرادت، وأن الولايات المتحدة تقدم أوكرانيا ومن ورائها أوروبا ضحية
للتخلص من روسيا، كي تتفرغ للصين، التي تواصل استفزازها، بغرض دفعها نحو مواجهة
عسكرية، فتنشئ أحلافا عسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتعلن عن أنشطة لـ
"الناتو"
هناك، وغيرها من الخطوات التي
تثير قلق دول جنوب شرق آسيا.
لقد أعرب أصدقائي الأوروبيون عن ارتياحهم الشديد لما كانت عليه العلاقات مع
روسيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والمصالح والمنافع المتبادلة، التي كانت
تستفيد منها جميع الأطراف، ليتحول الوضع بين عشية وضحاها إلى النقيض، ويصبح الاقتصاد
والأمن الأوروبي مهددين، وترتفع الأسعار، ويصبح الوضع حقا لا يطاق.
من جانبي قلت إن العالم بصدد نظام جديد متعدد القطبية، وآمل أن تتحرر
القارة الأوروبية من سلطة الولايات المتحدة الأمريكية و"الناتو"، وألا تعود إلى صيغة العلاقات القديمة التي كانت تضع أوروبا دائما موضع شد
وجذب بين الشرق والغرب، بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي الصيغة التي
دائما ما كانت تعيق التنمية الاقتصادية وتكامل القارة الأوروبية مع روسية، وإنما
تنشئ صيغة جديدة لعلاقات جديدة وشبكات اقتصادية ومالية جديدة تستند إلى المعطيات
الجغرافية وإلى البنى التحتية التي لا زالت موجودة منذ حقبة التعاون المثمرة بين
روسيا وأوروبا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق