روسيا لم تعد
معنية بأي لقاءات مع الولايات المتحدة الأمريكية أو الغرب
الكاتب
والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
صرح وزير الخارجية
الروسي سيرغي لافروف بأن حلف "الناتو" عاد إلى
أولويات الحرب الباردة، وأنه يرغب كما كان في السابق إلى "إبقاء الروس
خارج أوروبا".
جاء ذلك في مؤتمر صحفي
عقده الوزير في موسكو يوم أمس الخميس، 1 ديسمبر، حول قضايا
الأمن الأوروبي، قبيل اجتماع وزارة خارجية الدول الأعضاء في منظمة الأمن والتعاون
في أوروبا، حيث عاد لافروف ليذكّر بالكيفية التي تم بها إنشاء حلف "الناتو"، حينما توصل
الأمين العام الأول للحلف هاستينغز إسماي إلى صيغة "إبقاء الروس
خارج أوروبا، والأمريكيين داخلها، والألمان تحت السيطرة". ووفقا
للافروف، فإن "الناتو" يعود الآن، بعد 70 عاما، إلى نفس
الأولويات المفاهيمية، ويسعى لفرض هيمنته على جميع أنحاء العالم، فيما أفقدت سياسة
التوسع المتهور للحلف منظمة الأمن والتعاون في أوروبا قيمتها، والتي ألحق بها
الغرب عاهات تعيقها عن أداء وظيفتها وتفقدها قيمتها، دون أي فرصة مستقبلية
للتعافي، بعد أن فقدت تلك المنظمة مصداقيتها من حيث القرارات المتخذة منذ عام 1990.
أتفق مع وزير الخارجية
الروسي فيما قاله بشأن "عودة (الناتو) إلى أولويات
الحرب الباردة"، وأتفهم حنكته والضرورة الدبلوماسية لاستخدامه هذا
التعبير، لكن الحقيقة أن مؤسسي حلف "الناتو" لم يتخلوا
يوما عن تلك الأولويات منذ إنشائه قبل سبعين عاماً وإلى يومنا الحاضر.
لقد عكفت روسيا منذ
ثلاثين عاما، عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، ومعه حلف وارسو، إلى تقديم جميع الضمانات
والتطمينات إلى أعداء الأمس، حلف "الناتو" بقيادة
الولايات المتحدة الأمريكية، بأنها بذلك، وعلى الرغم من كونها الوريث الشرعي
للاتحاد السوفيتي، وعلى الرغم من إدراكها واستيعابها لأن تفكك الاتحاد السوفيتي هو
أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، تنهي صراعاً أيديولوجياً طويل الأمد بين
النظامين الإمبريالي الرأسمالي والشيوعي، وتنتقل من مرحلة المجابهة، سواء كانت
باردة تتجسد في سباق التسلح النووي، أو ساخنة بالوكالة في نقاط مختلفة حول العالم،
أو مرعبة تهدد العالم بالفناء مثل أزمة الكاريبي، إلى مرحلة التعاون الدولي لخدمة
البشرية، والالتفات إلى ما يمكن التنسيق بشأنه لمجابهة كوارث الطبيعة، والحفاظ على
البيئة من أجل الأجيال المقبلة.
ولقد أكد الرئيس
الروسي فلاديمير بوتين، في خطابه أمام مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، على الطبيعة
الدقيقة لمشكلة الأمن الدولي، التي قال إنها "أوسع بكثير من
قضايا الاستقرار العسكري"، مشددا على أنها تشمل
"ثبات الاقتصاد
العالمي، والتغلب على الفقر، والأمن الاقتصادي، وتنمية الحوار بين الحضارات"، ومشيرا إلى
أن "الطابع الشامل
وغير القابل للتجزئة تم التعبير عنه في المبدأ الأساسي القائل بأن أمن كل واحد على
حدة هو أمن الجميع"، واستشهد بوتين حينها بمقولة فرانكلين روزفلت في الأيام
الأولى لاندلاع الحرب العالمية الثانية: "أينما انتهك السلام،
يبدو العالم كله في خطر وتحت التهديد".
وهذا تحديدا ما دق
بوتين من أجله حينها ناقوس الخطر، حينما نوه إلى أن العالم أحادي القطب، ومهما تم
تجميل هذا المصطلح، يعني ببساطة "مركز واحد للسلطة،
للقوة، ولاتخاذ القرار"، ويعني أنه عالم "السيد الأوحد"، وهو أمر ليس
فحسب مدمر لأولئك الذين يوجدون في إطار هذا النظام، بل و"للسيد" نفسه، لأنه
يقوضه من الداخل.
كان ذلك منذ 15 عاما، حيث
كانت روسيا منتبهة إلى أن الخطوات التي قامت بها نحو الغرب على كافة المستويات وفي
كافة المجالات والقطاعات، لم تواجه بخطوات من الجانب المقابل، ولم يتخل الغرب يوما
عن نهج الاستحواذ، وادعاء التفوق غير المبرر، والهيمنة، والسيطرة، والتمدد شرقا
بلا وجه حق، استنادا إلى صيغة وهمية، زرعتها الدعاية الغربية في عقول البشر حول
العالم، وهي "انتصار الغرب على الشرق في الحرب الباردة"، "انتصار الرأسمالية
على الشيوعية"، و"انتصار الولايات
المتحدة الأمريكية على الاتحاد السوفيتي"، و"الناتو على
وارسو"، في وقت كانت البشرية فيه أحوج ما تكون إلى تجاوز
الماضي والتطلع إلى المستقبل، بدلا من محاربة طواحين الهواء، والتمسك بأدبيات
وأولويات الحرب الباردة.
صدق لافروف بإعلانه
يوم أمس في المؤتمر الصحفي عن أن العلاقات مع الغرب لن تعود إلى سابق عهدها، وليس
ذلك تشاؤماً بقدر ما هو الواقع الجديد الذي اختارته أوروبا، واختاره الغرب نفسه،
حينما أصر على رغبته المميتة والبليدة في إحراز التفوق على روسيا، التي لم ينس
يوما أنها وريثة الاتحاد السوفيتي، وظل حتى يومنا هذا يحاربها من هذا المنطلق،
سعيا لإنهاء مكانتها كدولة نووية عظمى، ومحاولة الهيمنة عليها، وتفكيكها، ومحوها
من الوجود، للهيمنة على مواردها وخيراتها وثرواتها، وبذلك "التحكم في
العالم أجمع"، جرياً وراء سراب "أحادية
القطبية".
لهذا يصبح من السذاجة
اعتبار أن ما يحدث على الأراضي الأوكرانية من عملية عسكرية خاصة، تتحول حثيثاً إلى
حرب وطنية عظمى، مجرد صراع بين أخوة الأمس، وإنما هو صراع وجودي حاسم بين روسيا
والغرب، بعدما استطاع الغرب أن يجنّد مجموعة، قد نختلف أو نتفق في مدى تأثيرها داخل
المجتمع الأوكراني، من النازيين الجدد، والقوميين المتطرفين، والإرهابيين،
والمغامرين، والمرتزقة، كي يقوموا بالمهمة القذرة لاستنزاف روسيا، من خلال
الاعتداء على جزء من شعبها، وعلى أمنها القومي، ومواجهتها بتهديد وجودي ينذر
بفنائها.
روسيا لن تتوقف الآن
إلا بعد تحقيق أهدافها النهائية، ولا تندرج إجراءات "الناتو" بتزويد النظام
المنتهية صلاحيته في كييف بمزيد من الأسلحة والأموال إلا تحت بند سكب المزيد من
البنزين على الحرب المشتعلة بضراوة، وبدأت فعلياً في التهام ما تبقى من الدولة
الأوكرانية، لتجهز عليها بالكامل.
وبعد أن كان الخطر
الذي يهدد الدولة الأوكرانية هو خسارتها لخمس مساحتها فحسب، أصبح ما يهددها الآن
هو انفصالها عن البحر، وتحولها إلى دولة زراعية تحيطها اليابسة من كل جانب، منغلقة
على نفسها، بل وخسارتها كذلك لأجزاء غربية لصالح بولندا، التي حتما ستطالب بأراض
كانت لها قبل الحرب العالمية الثانية، وساعد الاتحاد السوفيتي في ضمها لأوكرانيا،
ناهيك عما أصاب الدولة الأوكرانية فعليا من انهيار اقتصادي، وفساد إداري، وصراع
على السلطة ينهش أوصال الدولة، ما بين أقطاب النازية الجدد، مما يلهثون وراء خدمة "سيدهم" الأمريكي،
الذي ألقى بهم، وبأوروبا بأكملها في أتون الحرب.
إن روسيا تتجه بقوة
وإصرار نحو ما تؤمن أنه المستقبل، وهو العالم متعدد القطبية، وتلك حتمية تاريخية
وجغرافية واستراتيجية، وبقدر ما كانت روسيا طوال العقود الأخيرة مخلصة في نيتها
الانفتاح مع الغرب، والتعاون معه، بقدر عزيمتها وإرادتها لتغيير مجرى التاريخ،
وتحويل النظام العالمي الراهن إلى ما تراه مناسباً لا لمصالحها وحدها، وإنما
لمصالح أغلبية البلدان الصديقة، التي تتسع رقعتها يوماً بعد يوم، بينما ترى بأم
عينيها ازدواجية معايير الغرب، وظلمه، وهيمنته، وقوانينه وقيمه ومبادئه وأخلاقه
التي يفرضها على الجميع، دون أدنى اعتبار لخصوصيتهم وتقاليدهم وعاداتهم وأولوياتهم
التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية.
لقد انسحبت الولايات
المتحدة الأمريكية من معاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى ومن معاهدة السماوات
المفتوحة، دون أن تنبس الدول الأوروبية ببنت شفه، وقبل ذلك انسحبت الولايات
المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، ولم تقل أوروبا شيئاً، أو دعنا نقول إنها "عبرت عن قلقها"، وعن "مخاوفها"، دون أن
تتمكن إرادتها السياسية من فرض أبسط الأشياء، فأوروبا واقعة بالكامل تحت سيطرة
الولايات المتحدة الأمريكية، وفقا للصيغة سالفة الذكر: "إبقاء الروس
خارج أوروبا، والأمريكيين داخلها، وألمانيا تحت السيطرة"، وهو ما نرى
تجسيداً حياً له الآن، بينما تفرغ أوروبا مخازنها من الغاز والنفط والسلاح لصالح
النظام الأوكراني النازي، وتشتري ذلك بأثمان باهظة من الولايات المتحدة، في الوقت
الذي يهرب فيه رأس المال الأوروبي نحو الولايات المتحدة، نظراً لارتفاع سعر
الفائدة هناك، وارتفاع سعر الطاقة في أوروبا، وبالتزامن مع عقود مجحفة تضع مصائر
أجيال من المواطنين الأوكرانيين تحت رحمة الديون الأمريكية لعقود قادمة. والمستفيد
واحد لا شريك له: الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يعد لمنظمة الأمن
والتعاون الأوروبي أي مصداقية على حد تعبير لافروف، تلك حقيقة. إلا أنني على
يقين أنه لم يعد لأوروبا أي رأي أو كلمة في القضايا الاستراتيجية الدولية على
الإطلاق، وتكفي مكالمة واحدة من البيت الأبيض، أو حتى من مسؤول أمريكي من وكالة
المخابرات المركزية، لتلقي التعليمات التي تنفذها بحذافيرها لندن وبرلين وباريس
صاغرين.
لذلك لم يعد من المجدي
عقد لقاءات في القاهرة، ولم يعد من المجدي مناقشة قضايا الأسلحة النووية، بعدما
قامت واشنطن بتسريبات لمحتوى لقاء إسطنبول، الذي أكد الجانب الأمريكي نفسه من قبل
على ضرورة الإبقاء على قناة الاتصال ما بين مدير وكالة المخابرات المركزية
الأمريكية وليام بيرنز ورئيس المخابرات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين طي
الكتمان، حفاظاً على تلك القناة من التأثير الإعلامي. كانت المبادرة
أمريكية، والتسريب، في ذات الوقت، أمريكياً! وهو ما يدفع
للتساؤل عن الهدف من ذلك بالأساس.
لم تعد روسيا معنية
بأي لقاءات مع الولايات المتحدة الأمريكية أو مع أوروبا دون خطوات جادة وعملية
بشأن الضمانات الأمنية المعروفة والمعلنة من جانب روسيا. وبعد إفشال
كافة المخططات وأهداف الحرب الغربية الهجينة ضدها على جميع المستويات الاقتصادية
والإعلامية والسياسية، ستسير روسيا قدما في سياستها وإجراءاتها لتحقيق أهدافها
ومصالحها المشروعة من أجل أمن واستقرار ورخاء شعبها. والقلة ممن
يقرؤون التاريخ من "الناتو" والغرب، يعلمون جيداً
كيف ستنتصر روسيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق