خاص بالملف الإيراني والأوكراني وترسيم
الحدود اللبنانية وانتقال العالم إلى التعددية القطبية والموقف العربي
بقلم ✍️: رامي الشاعر – كاتب ومحلل سياسي
في لقائه يوم الأربعاء الماضي مع نظيره
الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن روسيا
تقبل بالكامل النص الأخير للاتفاقية الخاصة باستعادة خطة العمل المشتركة للبرنامج النووي
الإيراني.
وأضاف لافروف أن كل ما يعتمد على روسيا،
فعلناه جميعا منذ وقت طويل، ونحن راضون عن النص الحالي للاتفاقية، الذي أخذ يتبلور
الآن، ونسترشد بموقف أصدقائنا الإيرانيين. كذلك صرح لافروف في نفس المؤتمر الصحفي المشترك
مع عبد اللهيان بأن العمل المتعلق بصياغة ووضع الوثيقة الشاملة الخاصة بالتعاون بين
روسيا وإيران بات في مرحلته النهائية، معرباً عن رضاه عن الطريقة التي تتطور بها العلاقات
الثنائية الروسية الإيرانية، والتي وصلت إلى مستوى نوعي جديد، سيتم تحديده في اتفاقية
كبيرة بين الدولتين.
يأتي ذلك في ظل هيستيريا غربية يعمل من
خلالها الغرب، عن قصد وباستمرار، على تدمير هيكل العلاقات الدولية لأكمله، في محاولة
لتكريس هيمنتهم الشاملة على العالم، والتي تدفع الشريكين روسيا وإيران إلى “إنشاء آليات
موثوقة وبناءة، من شأنها أن تسمح بتطوير تعاون متبادل المنفعة بغض النظر عن أي إملاءات
خارجية” على حد تعبير الوزير الروسي.
كما يأتي ذلك أيضا في ظل أنباء عن تبوأ
إيران، يوليو الماضي، للمركز الأول بين مشتريي القمح الروسي في العالم، كما أطلقت روسيا
في نفس الشهر قمرا صناعيا إيرانيا إلى الفضاء، ما يعد نجاحا استثنائيا لبرنامج طهران
الفضائي، ناهيك عن زيادة التجارة بين روسيا وإيران بنسبة 10% في عام 2022.
كل ذلك يثير القلق في واشنطن والغرب، لما
يحققه التعاون المتبادل الدولتين روسيا وإيران على التخفيف من تأثير العقوبات الغربية
على كليهما، بل إن ذلك ليس المهم في التقارب الملفت بين البلدين، وإنما وصول العلاقات
الثنائية الروسية الإيرانية إلى ذلك المستوى الرفيع من الثقة، التي تسمح بدخول الطرف
الإيراني على خط الأزمة الأوكرانية، حيث قام عبد اللهيان تسليم روسيا رسالة من زعيم
أوروبي بشأن الوضع في أوكرانيا، وقد جاءت تلك الرسالة، وفقا لوزير الخارجية الإيراني،
“بناء على طلبه”، ووجهها إلى الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، حيث كتب نائب مدير مكتب
الرئاسة الإيرانية للشؤون السياسية، محمد جمشيدي، في تغريدة له على موقع “تويتر”، إن
“أحد كبار زعماء أوروبا الغربية طلب من الرئيس الإيراني المساهمة بالوساطة في حل الأزمة
الأوكرانية، وأنه بعد إجراء سلسلة من المشاورات، تم إرسال مبادرة السلام إلى جانب رسالة
هامة إلى موسكو”، وزعمت وكالة “إسنا” الإيرانية، الأربعاء الماضي، 31 أغسطس، أنها علمت
أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، هو صاحب الرسالة. على الرغم من ذلك، فمن الممكن
أن تكون تلك الرسالة “مبادرة” من أجهزة استخباراتية غربية، تهدف إلى جس النبض لمدى
جدية وتصميم روسيا في استمرارها بعمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وتمسكها بمحطة
الطاقة النووية في زابوروجيه، وأعتقد أن الخبراء والمحللين الأمنيين الروس والإيرانيين
يدرسون بعمق المبادرة الفرنسية، وغيرها فيما يخص أوكرانيا، وسائر القضايا الأخرى في
الشرق الأوسط، بما في ذلك القصف الإسرائيلي المتكرر لمواقع مختلفة على الأراضي السورية.
ومع ذلك، فقد قامت إيران بنقل الرسالة،
مع إداركها أنه لا يوجد مجال للوساطة في وقف العملية العسكرية الروسية الخاصة قبل تحقيق
هدفها النهائي، كما أعرب عبد اللهيان عن استعداد بلاده للمساعدة في الوضع حول محطة
الطاقة النووية في زابوروجيه، وهنا أريد توضيح أن روسيا، من تجربتها السابقة خلال
8 سنوات، تدرك ما يسعى له النظام في كييف، وهو الذي أوقف تزويد القرم بالمياه العذبة
عن طريق سد القناة، ووقف تزويد القرم بالكهرباء، وهو يسعى اليوم لاستعادة السيطرة على
محطة الطاقة النووية لقطع الكهرباء عن دونيتسك ولوغانسك، وهو ما لن تسمح به روسيا بتاتاً.
وخلال زيارة وزير الخارجية الإيراني، تم
التعرض للمحاولات والجهود الإسرائيلية الحثيثة لمنع التوقيع على الاتفاق النووي مع
إيران، حيث ناشد جنرالات إسرائيليون سابقون الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بعدم التوقيع
لما يمثله ذلك من “خطر” على إسرائيل، محذرين من “حدوث سباق تسلح نووي إقليمي”، ومن
“ضخ أموال غير متوقعة للإرهاب الإيراني” يمكن أن تهدد الاستقرار العالمي على حد تعبيرهم.
وكان الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية،
ناصر الكناني، قد صرح، في الأول من سبتمبر الجاري، بأن طهران أرسلت أجوبتها بشأن الرد
الأمريكي على مسودة الاتفاق النووي، حيث جاء ذلك بعد ساعات من إعلان وزير الخارجية
الإيراني عبد اللهيان أن بلاده “تعمل بعناية وبسرعة” على فحص النص المقترح حول الاتفاق
النووي وتجهيز الإجابة عليه. وكان منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي
الأمريكي، جون كيربي، قد أعلن في وقت سابق أن واشنطن تعتبر قرار إيران تقديم بعض التنازلات
هو “خطوة إيجابية” في المفاوضات، للعودة إلى خطة العمل الشاملة. وعلى الرغم من ذلك،
فأنا على يقين أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعود لتضع عراقيل جديدة كعادتها دائما،
خاصة بعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، يوم الأحد، 4 سبتمبر، عن إرساله
رئيس جهاز “الموساد”، ديفيد برينغ، إلى واشنطن، بهدف شرح موقف تل أبيب حول ما أسماه
“مخاطر الاتفاق النووي مع إيران”.
من جانبه وصف مندوب روسيا الدائم لدى المنظمات
الدولية في فيينا، ميخائيل، أوليانوف، الرد الإيراني على مقترحات الولايات المتحدة
على مسودة القرار بشأن إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة بأنه “غير طموح أكثر من اللازم،
ويمكن قبول المقترحات حال وجود الإرادة السياسية اللازمة لإكمال محادثات فيينا”. في
الوقت الذي أعرب فيه المفوض السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية،
جوزيب بوريل، عن أمله في إحياء الاتفاق النووي الإيراني “في الأيام المقبلة”.
يأتي ذلك على وقع زيادة وتيرة الهجمات الإسرائيلية
في الأسابيع الأخيرة، خاصة تلك التي استهدفت المطارات السورية (شنت المقاتلات الإسرائيلية
هجوما صاروخيا على مطار حلب، ومستودعات في محيطه، كما شنت هجمات على مطار دمشق)، حيث
صرحت مصادر دبلوماسية واستخباراتية لرويترز بأن إسرائيل كثفت ضرباتها على المطارات
السورية بهدف “تعطيل خطوط الإمداد الجوي التي تستخدمها طهران على نحو متزايد لتوصيل
الأسلحة لحلفائها في سوريا ولبنان، ومن بينهم حزب الله”.
علق وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد،
على تلك الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، بأن إسرائيل “تلعب بالنار، وتعرض الأوضاع
الأمنية والعسكرية بالمنطقة للتفجير، وستدفع الثمن”، وقد أكدت المتحدثة باسم وزارة
الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في بيان لها، الجمعة، 2 سبتمبر، أن موسكو تعتبر
التحركات الإسرائيلية “غير مسؤولة” و”غير مقبولة على الإطلاق” وأدانتها بشدة، مشددة
على أن الضربات الإسرائيلية تشكل انتهاكاً صارخاً لسيادة سوريا، وأعراف السياسة والقانون
الدولي، ومؤكدة على أن “هذه الممارسات العنيفة لا تسهم بأي حال من الأحوال في الحد
من المخاطر الأمنية لإسرائيل نفسها، بل على العكس من ذلك، تؤدي أعمال القوة المزعزعة
للاستقرار إلى تحركات انتقامية وتؤدي إلى تصعيد عسكري واسع النطاق”. وحثت زاخاروفا
على وقف إسرائيل لاستفزازاتها العسكرية المسلحة ضد روسيا، والامتناع عن أي تحركات تعرض
المنطقة بأكملها لخطر عواقب وخيمة.
لا يحدث كل ذلك بعيدا عن قضية ترسيم الحدود
البحرية الجنوبية للبنان، حيث من المتوقع أن يصل الوسيط الأمريكي، عاموس هوكشتاين،
إلى المنطقة قريباً لمتابعة المفاوضات بشأن هذا الملف، دون أن يحمل معه قبولاً نهائياً
ولا رفضاً مبدئياً للموقف اللبناني من هذه القضية، وقالت مصادر مطلعة إن هوكشتاين سيؤكد
تصميم واشنطن على التوصل إلى اتفاقية ترضي الجميع، ورفض الولايات المتحدة الخضوع إلى
أي ضغط زمني تحت طائلة التهديد أو التصعيد.
وعلى الرغم من أن الفوارق بين موقفي الجانبين،
اللبناني والأمريكي، قد تقلصت عقب الجولات المكوكية التي قام بها هوكشتاين، إلا أن
الخلاف، الذي يحمل أبعاد اقتصادية حساسة للغاية بشأن حقول الغاز الطبيعي المتنازع عليها،
لا زال قائما في ظل التصعيد الإسرائيلي الأخير، والذي يستهدف، بكل تأكيد، حزب الله،
وقدراته العسكرية، بينما تتوحد جميع القوى والأحزاب اللبنانية، على الرغم من خلافاتهم
السياسية الداخلية، حول شعار “لا تفريط بالحق اللبناني بالحدود والنفط والغاز”، ويتوجس
اللبنانيون من تطورات أمنية وعسكرية دراماتيكية تسبق الوصول إلى حل بشأن ترسيم الحدود
البحرية وغيرها من القضايا، حيث تتواصل التسريبات الإسرائيلية بشأن احتمال الدخول في
مواجهة مع حزب الله، وكذلك التسريبات من الجهة الأخرى بشأن استنفار حزب الله ورفع استعداده
العسكري بشكل كامل، بما في ذلك إبقاء كوادره وعناصره في مراكزهم على أهبة الاستعداد،
لتمثل الضربة الإسرائيلية لسوريا، والجهود الهستيرية لعرقلة الملف النووي الإيراني،
والمحاولات المستمرة لتشويه دور إيران في دعم المقاومة وحقوق الشعب الفلسطيني، وتصويرها
بـ “الشيطان الشيعي” الساعي للتمدد، وجعله يبدو وكأنه “أخطر من إسرائيل” على المنطقة.
كما أن ذلك أيضا لا يحدث بعيدا عن التقارب
الروسي الإيراني، وامتلاك إيران، بعد عقود من الحصار، لإرادتها السياسية، وقدرتها على
المناورة، حتى أن رؤساء غربيين يطلبون وساطتها في حل الأزمة الأوكرانية، بعد ما اتضح
ويتضح من العجز الغربي عن “عزل” روسيا عما يتصوره الغرب “المجتمع الدولي”. فإذا أضفت
إلى ذلك مشاركة الهند والصين في مناورات “فوستوك 2022” التي تجري في الشرق الروسي،
والخسائر التي يتكبدها السلاح الغربي الذي يقع في أيدي الجيش الأوكراني، بينما يصارع
النظام في كييف في محاولات بائسة يائسة لإثبات كفاءته، وأوجه وكيفية صرف مليارات الدولارات
التي تخرج من جيوب دافعي الضرائب في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في معونات
يستهلك جزء كبير منها في الفساد وتهريب الأسلحة.
وأود الإشارة إلى أنه لم يتبق للولايات
المتحدة الأمريكية أي إمكانيات سوى الاستمرار في اتباع نهج تسييس قضايا ترسيم الحدود
وتسييس الملف النووي الإيران وغيره من القضايا الأخرى، ومن بينها محطة الطاقة النووية
في زابوروجيه، والتحكم في أسعار النفط والغاز الروسي، وأكبر دليل على ذلك القرار الذي
اتخذته مجموعة الدول الصناعية السبع، التي تم تسييسها إلى درجة أنها لم تكتف بتحديد
سعر النفط الروسي، بل وفرض شروط على شركات التأميل لوسائل نقل النفط الروسي، إلا أن
كل هذه الإجراءات والمحاولات البائسة لا يمكن أن توقف عملية إنشاء نظام مالي وبنكي
واقتصادي وأمني جديد، يخدم مصالح الجميع بشكل متساو، وعلى أسس وقوانين مثبتة في هيئة
الأمم المتحدة، والتي سيتم إضافة تعديلات عليها، ولن تبقى على وضعها اليوم، بينما تتحكم
الدولة المضيفة بنظام عملها، وتمنح من تريد تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية،
وتمنع من تريد كما يجري اليوم مع الوفد الروسي المشارك في أعمال الجمعية العامة للهيئة.
من الممكن أن يتساءل البعض عمن سيقوم بكل
هذه التغييرات، وأقول أولا، إن هذه التغييرات قد بدأت بالفعل بالاتفاق بين روسيا والصين
ومجموعة شنغهاي والبريكس، وستنضم إليها إيران، وأعتقد أن البلدان العربية في قمة الجزائر،
ومن خلال اتخاذ بعض المواقف، خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ستكون أقرب إلى هذه
المجموعات التي ذكرتها، إضافة إلى كثير من البلدان الإفريقية وبلدان أمريكا اللاتينية،
ممن يؤيدون هذه التغييرات.
فما يحدث أمام أعيننا ببساطة هو إعادة تشكيل
للنظام العالمي الجديد، متعدد القطبية، والذي تلعب فيه مراكز القوة من جميع أنحاء العالم
أدوارا متساوية ومختلفة ومتناغمة دفاعا عن دولها القومية بينما يسود في كل منها أنظمة
تستند إلى موروثها الثقافي والاجتماعي وأوضاعها الاقتصادية والسياسية بلا إملاءات أو
ضغوط خارجية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق