الثلاثاء، 13 يناير 2009


(د. صالح ياسر بحوار خاص للشرارة)

حوار حول الأزمة المالية العالمية الراهنة
نوري حمدان

الازمة المالية في العالم ما هي جذورها وكيف نشأت، وما هي ابعادها في العالم لاسيما البلدان النامية، وهل للازمة تداعيات على الاقتصاد العراقي، هذه الاسئلة كانت محاور الحوار الذي اجرته مجلة الشرارة مع الخبير الاقتصادي الدكتور صالح ياسر عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي.


الشرارة: ما هي جذور الأزمة المالية الراهنة وكيف نشأت؟

د. صالح ياسر: بداية، أود أن أتوجه بالشكر للرفاق في هيئة تحرير مجلة (الشرارة) الغراء على هذه المبادرة بإثارة الحوار حول الأزمة المالية العالمية الراهنة وما تحمله من مخاطر وتداعيات آنية ومستقبلية، عالميا وإقليميا وعلى مستوى كل بلد، سواء كان متطورا أو مختلفا. وانتهز هذه الفرصة لأعبر عن تقديري واعتزازي بالدور الذي تنهض به المجلة ومحرريها بما تعالجه من قضايا وإشكاليات وإثارة جدل ثري حولها.
وقبل الدخول في التفاصيل، يهمني الإشارة في البداية الى بضع ملاحظات اعتقد أنها ضرورية.
1. إن الأزمات الدورية التي تتعرض لها الرأسمالية ليست عرضية أو طارئة بل هي من صلب هذا النظام وتلازم تقدمه.
2. إن الأزمة المالية الراهنة ليست بنت لحظتها بل هي نتاج عملية إعادة هيكلة كبرى للاقتصاديات الرأسمالية المتطورة بدأت منذ ما يقارب الثلاثة عقود، رفعت لوائها هيئة أركان النظام الرأسمالي العالمي المتمثلة في منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، وما طرحته من " إصلاحات " تمحورت حول ما سمي ببرامج التكييف الهيكلي والخصخصة و " تحرير الأسواق " وما يماثلها.
3. ان الأزمة الحالية رغم تمظهرها المالي إلا أنها بدأت تعصف بالنظام الاقتصادي العالمي وليس المالي فقط، وهي تأتي في سياق سلسلة الأزمات المتلاحقة التي تسارعت منذ أوائل التسعينيات من القرن العشرين. وقد عكست هذه الأزمات المتلاحقة طبيعة الأزمة البنيوية التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي في تحولاته الجديدة منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي.
4. إنّ السباق العالمي المجنون للاستحواذ على الثروة عبر " التلاعب المالي " هو القوة المحركة وراء هذه الأزمة الطابع ليصبح الطابع المالي المعولم المعزول عن الاقتصاد الحقيقي هو المقرر لدرجة وصل إلى مرحلة تهدد التطور الرأسمالي كله.
5. لا بد من الانتباه الى أنه في الأزمة المالية الراهنة لم ينبثق رأس المال المالي عن التوظيفات المالية (نقود تولدها نقود أخرى) كما يروج له البعض، بل أنها تتأتى من فائض القيمة الذي يقتطع في إطار الاقتصاد الحقيقي، (السلع والخدمات). ثم ان جزء متعاظم من هذه القيمة يتم الاستيلاء عليه من طرف المساهمين على شكل ريوع ومن طرف البنوك على شكل فوائد. ويعني هذا ان البورصات ليست هي التي تمول الاقتصاد، وإنما الاقتصاد هو الذي يغذيها.
استنادا الى الملاحظات السابقة، يمكن القول أنّ الأزمة المالية العالمية الراهنة تمثل أكبر تهديد راهن ومحتمل لاستقرار الاقتصاد العالمي وللنظام الرأسمالي العالمي على وجه الخصوص. فقد طالت هذه الأزمة الجزء الأعظم من شعوب وبلدان العالم بدرجات متفاوتة، علما أنها تمثل القسم الظاهر من جبل الجليد العائم الذي يخفي أزمات حادة متفجرة، أو على طريق الانفجار، وقد يترتب عليها تغيير جوهري في العلاقات الناظمة للاقتصاد العالمي بين " مراكزه " و " أطرافه " وتؤثر على تناسبات القوى الناظمة له في الوقت الحاضر.
ولفهم جوهر الأزمة الراهنة، التي اندلعت هذه المرة في حقل التداول وتمظهرت على شكل أزمة مالية طالت الولايات المتحدة ثم امتدت كالنار في الهشيم لتلقي بحممها على مختلف بقاع العالم، لا بد من العودة الى الجذور وتناول بعض القضايا التي تتيح فهم هذه الإشكالية.

ان السبب الرئيسي في نشوء الأزمات الاقتصادية عموما، بغض النظر عن الحقل الذي تتمظهر فيه، هو التناقض الأساسي للرأسمالية، التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والشكل الخاص للتملك الرأسمالي. وهو تعبير عن التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية.

تظهر الأزمات كانفجارات عنيفة لتناقضات الرأسمالية. وهي وسيلة لحلها المؤقت العنيف ولإعادة التوازن المختل ولو الى حين. على ان الأزمات في حد ذاتها تتحول الى عامل بالغ التأثير في التطور والاحتدام اللاحقين لتناقضات الرأسمالية.

وإذا عرّفنا الأزمة الاقتصادية بأنها مرحلة أو طور انحدار الإنتاج في حركة رأس المال الدورية، أي إنها أزمة نمط التراكم الرأسمالي، أزمة الأساس الاقتصادي للتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الرأسمالية، فانه لا سبيل الى فهم الأزمة الممتدة منذ السبعينات من القرن العشرين إلا بالنظر الى التغيرات الهيكلية الجارية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. فالظاهرة البارزة هي تشابك الأزمة الدورية مع الأزمات الهيكلية التي يبحث رأس المال الدولي عن مخرج منها من خلال ترشيد الإنتاج على أساس منجزات الثورة العلمية – التقنية. ومن ثم تشابكت الظواهر ذات الطابع الدوري مع الأزمة الهيكلية طويلة الأمد، والركود في الفروع القاعدية للاقتصاد الرأسمالي.

وإذا تحدثنا عن أسباب الأزمة المالية العالمية الراهنة، فانه ورغم الاتفاق على وجود أزمة مالية يمرُّ بها الاقتصاد الرأسمالي العالمي راهنا إلاّ أن الخاصية المميزة في هذا المجال هي الاختلاف الجذري في تفسير أسبابها وتحديد الحقل الذي تندلع فيه ضمن عملية إعادة الإنتاج الرأسمالية، ولهذا نلاحظ تنوع المقاربات التي تتطلب التوقف عندها.

لا بد من الإشارة، في البداية، الى ان النظام الرأسمالي العالمي، ابتداء من أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن العشرين، قد دخل في أزمة بنيوية تشتعل داخل عملية إعادة الإنتاج الرأسمالي قوميا ودوليا. ولفهم طبيعة هذه الأزمة وتحديد مداها بشكل سليم لا بد التأكيد على ملاحظتين:

أولا: ان التحليل المثمر للازمة وتنظيرها بشكل صحيح لا يتم إلا بشكل ملموس، أي تحديد المرحلة التي يمر بها النظام الرأسمالي في صيرورته، أي ضرورة الكشف عن خصوصية أزمة الرأسمالية المعاصرة منذ أوائل السبعينات. أنها أزمة رأسمالية الدولة الاحتكارية المعولمة باعتبارها تعبيرا عن تلك المرحلة التي بلغتها الرأسمالية في تطورها وانتقالها من مرحلة الى أخرى.

ثانيا: ان الكشف عن خصوصية أزمة الرأسمالية المعاصرة التي اندلعت منذ بداية سبعينات القرن العشرين وما زالت مشتعلة يستدعي ضرورة تحديد أسبابها بشكل منهجي صحيح.

ورغم تأكيد مختلف المدارس الاقتصادية على وجود أزمة يمر بها الاقتصاد الرأسمالي بدأ من " قلعته الحصينة " الولايات المتحدة إلا ان الخاصية المميزة في هذا المجال هي الاختلاف الجذري بين تلك المدارس في تفسير أسباب الأزمة وتحديد الحقل أو الطور الذي تندلع فيه في عملية إعادة الإنتاج الرأسمالية. وهنا يمكن تمييز اتجاهين أساسيين هما:

الاتجاه الأول

يعتبر هذا الاتجاه طور التبادل والتغيرات والتطورات الحاصلة فيه بمثابة مصدر ومنبع الأزمة. وإذا أردنا ان نفهم هذا الاتجاه على مستوى اعلي من التجريد لأمكننا القول بأنه يرى الأزمة الراهنة بكونها أزمة تحقيق فائض القيمة باعتبار ان القانون الاقتصادي الأساسي للرأسمالية هو تعظيم فائض القيمة وتحقيق أقصى الإرباح. ان هذا الاتجاه ينشغل إذا بالتطورات الحاصلة في طور التبادل وأساسا في مجال التداول (للسلع والنقود) ويهمل الطور الأساسي – طور الإنتاج – رغم ان العلاقة الإنتاجية في هذا الطور – الإنتاج – هي العلاقة الأساسية الأولية، التي تقرر بقية العلاقات في الأطوار التالية والتي تعتبر علاقات ثانوية، مشتقة.
نقطة مقتل هذه الاتجاه وما يرتبط به من مقاربات للازمة الراهنة هو تركيزه النتائج وتجنب البحث عن الأسباب. فبحسب هذه المقاربة، جرى تبسيط الأزمة الراهنة من قبل الطبقات الرأسمالية الحاكمة، وخاصة في الولايات المتحدة، بغية إخفاء جذورها وعمقها وطابعها البنيوي الشامل.

فمثلا في معرض تحديدها لأسباب الأزمة ترى هذه المقاربة أنها ناتجة عن:
- أزمة الرهن العقاري التي تعتبر الشرارة التي أشعلت حريق الأزمة الراهنة.
- أو أزمة البورصات، أي الأسواق المالية العالمية.
- أو أزمة الثقة التي سادت بين البنوك بعد اندلاع الأزمة المالية الراهنة وما حملته من تداعيات خطيرة وما رافقها من حالة هلع خوفًا من الانهيار مما دفعها الى اتخاذ إجراءات ذات طابع انكماشي.

ضمن هذه المقاربة، وعند المباشرة في تحديد جذور الأزمة المالية العالمية الراهنة، تتنوع الاتجاهات:
· فهناك من يرى ان الأزمة المالية الراهنة ناجمة عن " أدوات الضبط " المستخدمة وضعف الرقابة الحكومية على المصارف والمؤسسات المالية عموما، وان التغلب على تلك الأزمة يكمن في إزالة هذه الأدوات.
وعادة ما نرى هذا التفسير سائدا في تحليلات ومقاربات المؤسسات المالية وبعض المحللين الماليين، وهي التحليلات التي تنشغل، في العادة، بمظاهر الأشياء وتتجنب الغوص في عمق المشكلات.
ودون التقليل طبعا من الأدوار التي لعبها المدراء الكبار والخلل في أدوات الضبط والمراقبة المصرفية، وما ذكر من أسباب إضافية، إلا ان نقطة ضعف هذه المدخل تكمن في انه يركز البحث عن " أكباش فداء " ممثلين بالأشخاص المسؤولين أو المصارف بدلا من طرح الأسئلة حول النظام الرأسمالي ذاته وآلياته التي أتاحت المجال لهؤلاء الأفراد ولهذه المؤسسات واسعا لتحقيق القانون الاقتصادي للرأسمالي (تحقيق أقصى الأرباح) دون إعارة الاعتبار لأية قضايا وتداعيات أخرى.

ولكن وحتى نضع الأمور في سياقها الصحيح، لا بد من الإشارة الى تلك المرتبات الفلكية للإدارات العليا لم تكن سوى عرض جانبي للأزمة. ففي السياق الأوسع تعود الأزمة، في هذا المجال، أساسا إلى سياقين رئيسيين هما اللذين أسسا لهذه الأوضاع:
- ظهور وصعود الريغانية. ابتدأ الرئيس الأميركي الأسبق (رونالد ريغان) فترة حكمه بتطبيق سياسات تحرير الأسواق عموما، بما فيها أسواق المال من أي ضوابط ارتباطا بايديولوجيا الليبرالية الجديدة التي اعتمدها هو ورئيسة وزراء بريطانيا آنذاك (مارغريت تانشر)، حيث شاع في أواخر السبعينات من القرن العشرين مصطلحا (الريغانية) و (التانشرية) كنماذج لليبرالية الجديدة باعتبارها عقيدة يحتمي تحت رايتها دعاة تحرير الأسواق والعودة الى " الأصول ".
- وبتحديد أقرب، تعود الأزمة أيضا إلى تشرين الأول (أكتوبر) 1999 حينما أصدر الكونغرس الأميركي، الخاضع لسيطرة الجمهوريين، تشريعا بإلغاء ما تبقى من قيود صارمة كانت مفروضة على نظام المال الأميركي منذ سنوات الكساد العظيم في الثلاثينات من القرن الماضي. ونظراً لغياب تلك الرقابة الصارمة أو ما تبقى منها تتابعت الأزمات. وفي الطريق إلى الأزمة عملت مؤسسات المال الأميركية على جذب الأموال الضخمة من الخارج تحت إغراء الأرباح الاستثنائية من خلال أدوات استثمارية " تبين بعد الخراب أنها كانت من الأصل مسمومة ".

بموجب تلك الإجراءات تحررت الاموال الى حد بعيد من الالتصاق بقطاعات الاقتصاد الحقيقي، وخلقت فضاء خاصا تدور فيه، بحيث تستند الى قطاعات الاقتصاد الحقيقي من جهة، وتسيطر عليها وتعرضها للكثير من المخاطر من جهة أخرى.

· وبالمقابل هناك من يقر بالأزمة ولكن مع بذل الجهد لـ " تحميل مسؤولياتها " للآخرين مع ربط الأمر بالدعوات لـ " ترشيد الرأسمالية ".

باختصار شديد، تقوم هذه المقاربة على استعراض نوع من " الصحوة الأخلاقية ". غير أننا لو دفعنا هذه المقاربة الى نهايتها المنطقية لتبين أنها تحوم في الواقع حول تحقيق هدف ابعد هو تجنب أي قراءة نقدية للعقيدة النيو- ليبرالية التي وضعت حرية السوق والمضاربة في مصاف المقدس بحيث لا يجوز المس به، ناهيك عن انتهاكه، والتي أدت الى النتائج الكارثية الحالية.

وهكذا فإن هذه المقاربة بدلا من أن تقدم رؤية حقيقية للمشكلة نراها تركض لاهثة لرفد العقيدة النيو - ليبرالية بمسوغات فكرية وإيديولوجية تبرر ما حدث ولا تكلف نفسها طرح السؤال الأهم: لماذا حدث الانهيار، وما هي أسبابه الفعلية؟، وهو ما دفع بأحد الكتاب الى القول ان هذه المقاربة تسعى لإيجاد " وصفة لا يموت فيها، أو بموجبها، الذئب ولا يفنى الغنم ".

· وهناك أيضا رؤية ثالثة تعتقد ان أزمة الائتمان العالميّة ناجمة من عدم رغبة المصارف في إعطاء القروض بنسب فائدة معقولة أو بشروط معقولة للشركات. لذلك، تُدفع المؤسّسات التي تُعاني من الصعوبات الماليّة، إلى الإفلاس، ولا بد من توقع المزيد خلال العام المقبل. ولكن مشكلة هذه المقاربة تكمن في عدم قدرتها على الإجابة على سؤالين أساسين يمثلان لُب المشكلة:

السؤال الأول: لماذا لا تستطيع المصارف إعطاء المزيد من القروض؟
السؤال الثاني: وما هي هذه الأصول التي خسرت كلّ هذه القيمة؟

طبعاً، يعرف بعض الخبراء وعلماء الاقتصاد المؤيدين لهذه الرؤية أنّ الإجابة تكمن في مكان آخر، غير ان هذا المكان هو بالضبط المكان الذي لا يريدون الذهاب إليه، لأنه مكان ينتمي إلى الاقتصاد السياسي العلمي، الذي يطرح ضرورة بحث قضية تأثير هذه السياسات على الطبقات الاجتماعية المختلفة والقوى الاجتماعية المسؤولة عنها والبديل المطلوب لتجاوز الأزمة. ومن المؤكد ان هذا البديل ليس سوى ذلك الذي يطرح أمر الخروج من منطق النظام الراهن ذاته، فهو الذي تسبب في هذه المشكلة وفجّرها في أزمة مالية خطيرة تعكس عمق الأزمة البنيوية العميقة التي يمر بها الاقتصاد الرأسمالي العالمي منذ عدة عقود.


الاتجاه الثاني
ومن اجل تحقيب صحيح للمشكلة التي نحن بصدد إنتاج معرفة معللة عنها، تنطلق هذه المقاربة من محاولة التعرف على الأسباب الحقيقية للازمة، من خلال تحليل طور الإنتاج والتغيرات الجارية في البنية الإنتاجية للاقتصاد الرأسمالي. ومن خلال تحليل هذا الطور يمكن تعميم النتائج المتحصل عليها، وتستخدم كأداة معرفية – تحليلية لدراسة التطورات في مجال التداول وبحث العلاقات ذات الطابع الجدلي العام، ليتم الوصول، في نهاية الأمر، الى تشخيص الأزمة المندلعة بأنها أزمة بنيوية الطابع Structural من جهة، وهي أزمة إنتاج فائض القيمة من جهة أخرى. غير أنه من المفيد التذكير بأنه وارتباطا بعولمة الحياة الاقتصادية فان الأمر يحتاج الى أن يُدخَل في التحليل المظاهر الجديدة في تدويل عملية إعادة الإنتاج الرأسمالية، والدور المتعاظم للرأسمال المالي والوهمي وللشركات الاحتكارية الدولية النشاط في الاقتصاد الرأسمالي، والأسواق المالية وما تشهده من " تذبذبات " وعدم الاقتصار في تحديد أسباب الأزمة الاقتصادية الراهنة على المخطط الكلاسيكي لتراكم رأس المال، إضافة طبعا الى متابعة مسار تطور النظام الرأسمالي العالمي الذي خلق المقدمات لنشوء هذه الأزمات وفاقمها.
إن التراكم الفائض لا يتجلى بشكل وجود قدرات إنتاجية لا تعمل بكامل طاقتها في القطاعات التي تصيبها الأزمة فحسب بل وبشكل رأسمال نقدي فائض نسبيا في الفروع النامية بصورة ديناميكية. وهكذا تتشابك أزمات الإنتاج الدورية مع الأزمة في المجال التسليفي - المالي.

والمفتاح في فهم هذه الإشكالية هو ان الفائض النسبي في تراكم رأس المال النقدي يفوق بنسبة متزايدة التوظيفات المباشرة في " رأس المال المنتج " أي تلك المؤسسات التي تنتج القيم المادية وتنتج فائض القيمة. هكذا إذن ينمو رأس المال المالي، بما في ذلك رأس المال الوهمي والمضارب، وتتعاظم مواقع المؤسسات المالية والنقدية بما فيها البورصات والبنوك العملاقة ذات الطبيعة الاحتكارية، مما يعزز الطبيعة الطفيلية لرأس المال المالي، يقابل ذلك تباطؤ وتائر نمو القطاعات الإنتاجية.

إن الملاحظات السابقة تتيح الإشارة الى أن التحليل الصحيح للازمة، التي هي موضوع حديثنا (الأسواق المالية العالمية)، يستحث أن تُرجع " التذبذبات " الحادة التي عاشتها أسواق المال والبورصات العالمية، منذ " الاثنين الأسود" (15/9/2008)، الى جملة من الأسباب وليس الى عامل واحد من جهة. وهي من جهة ثانية ليست نتاج التناقضات الحاصلة في حقل التداول فقط وإنما امتداد وانعكاس لما يعتمل به حقل الإنتاج من تناقضات ظاهرة مرة ومضمرة مرة أخرى.

وانطلاقا من الملاحظات أعلاه فانه يمكن القول ان الأزمة المالية العالمية الراهنة ناجمة عن جملة أسباب وعوامل عميقة وجوهرية من بينها:
· في البداية، لا بد من الإشارة الى ان الانهيار لم يبدأ مع أزمة الرهونات العقارية الأمريكية هذا العام، بل بدأ ببطء بشكل انكماش اقتصادي متنامٍ منذ عقدين وأكثر. بدأت ملامح الركود الاقتصادي منذ فترة متمثلة في:
- انخفاض وتيرة النمو الاقتصادي.
- زيادة وتيرة التضخم.
- العجز المتفاقم في ميزاني التجارة والمدفوعات بسبب الإنفاق العسكري للولايات المتحدة وخصوصا على الحرب في العراق وأفغانستان والتي بلغت تكاليفها حوالي 700 – 800 مليار دولار.
· إضافة الى ذلك فانه لا يمكن تجاهل تأثير الركود الاقتصادي الأمريكي، على التباطؤ في وتائر نمو قطاع الإسكان في الولايات المتحدة، فالمشكلات الحادثة على صعيد الرهن العقاري تجد جذورها في الركود الاقتصادي هذا. حيث أشار تقرير مبيعات المنازل (القديمة والحديثة) في الولايات المتحدة إلى تراجع في عدد المنازل المباعة بدأً من حزيران 2007 ولاحقا. فخلال السنوات السابقة كانت هناك حالة من الانتعاش في أرباح الشركات وأسعار المنازل. وكان من بين العوامل التي ساهمت في تحقيق هذا الانتعاش، انخفاض سعر الفائدة، مما أدى الى انخفاض تكلفة الاقتراض بالنسبة للأفراد وبالنسبة أيضا للشركات، لتمويل عمليات الاستثمار وشراء العقارات. غير أن الأشهر الأخيرة شهدت ضعفا ملحوظا في أداء الاقتصاد الأمريكي وبالتالي بروز مشكلات في سوق القروض العقارية الأمريكية مما أثار مخاوف المستثمرين. وقد أدى هذا الوضع الى اهتزاز أسواق المال والبورصات العالمية نتيجة مخاوف من أن تنتقل المشكلات التي يعاني منها القطاع العقاري الأمريكي الى بقية أسواق العالم. وارتباطا بذلك حلّت تلك اللحظة التي بدا فيها أن عهد القروض الرخيصة قد ولى. بيد أن ضعف الاقتصاد الشامل الذي تعاني منه الولايات المتحدة الآن يرجع إلى ما هو أبعد من العجز في الإمدادات من أرصدة الائتمان من خلال ما يلي:
- هبوط أسعار المساكن يؤدي إلى تقلص مداخيل الأسر الأمريكية، وبالتالي انكماش الإنفاق الاستهلاكي.
- كما يؤدي انخفاض معدلات تشغيل العمالة إلى تقلص الأجور والدخول.
- ومع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة تتقلص الدخول الحقيقية.
- فضلاً عن ذلك فإن انتقال آثار انحدار النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة الى بقية أنحاء العالم يعني انخفاض الطلب على صادرات هذا البلد، وبالتالي تعمق الركود الاقتصادي على الصعيد العالمي والأمريكي بكل ما يحمله من آثار سلبية.
· وبالمقابل، وحتى نضع قضية الرهن العقاري في مكانها الصحيح، في صعودها وهبوطها، علينا الإشارة الى مثّل هذا الارتفاع الهائل في أسعار المنازل كما هو الأمر بالنسبة لارتفاع الأسهم والسندات في البورصات، مثّل في الواقع انحرافاً كبيراً في توظيف موارد الرأسماليّة في اتجاه قطاعات غير منتجة، لم تؤدِّ إلى أي ربح جديد، من خلال الاستثمارات في التكنولوجيا والقوى العاملة. هنا حدث تطور مهم إذ حدث انتقال للمركز الأساسي للقرار الاقتصادي، من إنتاج القيمة الزائدة في القطاعات الإنتاجية، إلى إعادة توزيع الأرباح التي تأتي بها المنتجات المشتقة من التوظيفات المالية. ربما هذه هي واحدة من أهم القضايا التي ينبغي تسليط الضوء عليها لتفسير الأزمة المالية الراهنة. فقد خفّض ذلك من قدرة الرأسماليّة على الاستثمار في تكنولوجيا جديدة من أجل دفع النمو الاقتصاديّ، وكانت العمليّة خلق رأسمال خياليّ، وهمي. وهذا يتبيّن من خلال حدث واضح، يتعلق بحركة أسعار المنازل بين 1991 و 2006. في عام 1991، توقّفت أسعار البيوت على المؤشّر 100، فيما ارتفعت إلى 200 عام 2006، ما يعني أنّها تضاعفت. وفعلياً، لم تكن أسعار العقارات في السوق منسجمة مع القيمة الحقيقيّة للمنازل. لقد أصبحت السوق العقاريّة مكاناً للمضاربة الماليّة. هذا مع العلم ان منطق الرأسماليّة يشير الى أنها لا تعمل بسلاسة، بل تمر بدورات انتعاش وانكماش وركود. وهذا درس مهم يفسر لماذا حصلت الأزمة وفي مقدمتها أزمة الرهن العقاري. ويمكن الاستنتاج إذن بان أزمة الرهن العقاري، باعتبارها إحدى تجليات الأزمة المالية، ما هي إلا تمظهر للازمة المشتعلة على " نار هادئة " في حقل الإنتاج من خلال ما حصل من انحراف كبير في الموارد باتجاه قطاعات غير منتجة، قابلَ ذلك انخفاض القدرة على الاستثمار في تكنولوجيا جديدة من اجل تحفيز النمو الاقتصادي.هكذا إذن بدلا من خلق التراكم الرأسمالي المطلوب في قطاعات منتجة تم الانحراف نحو خلق رأسمال خيالي/وهمي لا يخلق ثروات حقيقية. فخلال الانتعاش الحاصل في العشرين سنة الماضية، انتفخ قطاع الخدمات الماليّة بطريقة خطرة. فمثلا في عام 1979، كان ما يزيد قليلاً عن (5) ملايين أميركي يمتلكون أسهما، أما الآن، وبعد مرور ثلاثين عاماً تقريبا، ارتفع هذا العدد إلى ما يقرب من (60) مليون شخص (حوالي 12 مرّة)، وان ما يدور في البورصات هو كتلة نقدية تعادل (1.5) ترليون دولار يومياً أي حوالي (500) ترليون سنوياً، وهناك من يتحدث عن أنها تبلغ 700 تريليون سنويا.
· انعدام التناسب بين الكتلة السلعية والكتلة النقدية. حيث يقول العديد من كبار الاقتصاديين أن الأمريكيين استطاعوا بأدواتهم، ولاسيما البورصة، خرق القانون الموضوعي القائل بالتناسب بين الكتلة السلعية والكتلة النقدية. فكما معروف، وبحسب أبسط كتب الاقتصاد السياسي، هناك معادلة بسيطة، فحواها أن أية كتلة نقدية في التداول يجب أن تساوي كتلة السلع المنتجة خلال فترة محددة مقسومة على سرعة دوران النقد خلال الفترة نفسها، وعادة ما تكون الفترة الزمنية سنة واحدة. ولنأخذ الإنتاج العالمي الذي يقدر حسب الأرقام المنشورة بـ (60) تريليون دولار، لكن طريقة الحساب كما يرى بعض الاقتصاديين، وهم على حق، تشير الى القول إن هناك حساباً مكرراً وهناك تضخيم للإنتاج العالمي. وبناءً على ذلك فإن هذا الإنتاج قد يكون بحدود (40) تريليون، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه ليس كل الإنتاج العالمي يتم تبادله بالدولار، وهنا لابد من القول إن نصف هذا الإنتاج يجري تبادله بالدولار، وإذا اعتبرنا أن الإنتاج العالمي الذي يخدمه الدولار هو (20) تريليون فمن المؤكد أن سرعة دوران النقد هي أعلى من واحد، وإذا كانت كذلك فإن المعادلة تحتم أن تكون كتلة النقد في التداول أقل من كتلة السلع المنتجة خلال الفترة الزمنية المحددة. فإذا كان لدينا (20) تريليون دولار من الإنتاج الحقيقي فيجب أن يكون لدينا أقل من (20) تريليون دولار للاستخدام، لكن الأرقام تقول بأنه منذ 1995 فاقت الكتلة الدولارية المطروحة للتداول (300) تريليون، والأرقام الجديدة التي نشرت بعد اندلاع الأزمة فجّرت مفاجأة ضخمة حين أكدت على أن الكتلة الدولارية بلغت حدود (700) تريليون، في حين يجب أن تكون الكتلة النقدية أقل من واحد أي أقل من (20) تريليون، أي لدينا (35) ضعفاً مما هو مطلوب من حجم الكتلة النقدية الدولارية الدائرة في العالم اليوم. مغزى هذه الأرقام مهم ذلك لأنه خلف هذا الانهيار المالي، ترتسم أزمة في الاقتصاد الحقيقي، لأن الانحراف المالي نفسه، سيؤدّي إلى شلل النمو والبنية الإنتاجيّة. ويمكن الاتفاق مع المفكر الاقتصادي المصري المعروف سمير أمين حين أشار الى ان "... الحلول المقدّمة للأزمة المالية، لا تستطيع إلا أن تؤدي إلى أزمة في الاقتصاد الحقيقي، أو بكلام آخر، إلى ركود نسبي في الإنتاج، مع ما سيتسبب به ذلك من تراجع مداخيل العمال وارتفاع في نسب البطالة ".
· التحولات التي شهدتها أنظمة البورصة العالمية وآثارها. نظام البورصة العالمي الذي نراه اليوم لم يكن تاريخياً بهذا الشكل. فقد تكوّن الشكل الحالي للبورصة عام 1995 حين حوت البورصة مبادلات تعكس حجم مضاربة واسع جداً، وكان 90 % من مبادلاتها عبارة عن مضاربات مالية، وكانت البورصة قبل ذلك تتشكل بنيتها كالتالي: 90 % مبادلات حقيقية و10 % مضاربات مالية. وهذا التحول الذي شهدته البورصة مكّنها من امتصاص جزء كبير من الكتلة النقدية الدائرة حول العالم. وإذا كان الناتج العالمي يبلغ (40) تريليوناً، فإن الذي يدور في البورصات هو كتلة نقدية تعادل (1.5) تريليون دولار يومياً أي حوالي (500) تريليون سنوياً. وبما أن ضخ النقد لا يوقف هذا العملية وهذا الضخ هو عملياً طريقة لإعادة توزيع الثروة لمصلحة الأغنياء والشركات الكبرى، فهذه الكتلة/الفقاعة كانت ستنفجر عند لحظة معينة، وإذا كان الحديث منذ ستة شهور يدور حول زوال إمكانية إيقاف انفجار الفقاعة المالية بمجرد تجاوزها نسبة 1/35، فالحقيقة أنه قد تم تجاوز هذه النسبة منذ فترة، وكل ما يظهر على السطح الآن ما هو إلاّ ارتدادات الانفجار، وقد كانت المؤسسات الأمريكية الرأسمالية الكبرى واعية لحجم هذا الخطر واستطاعت أن تحتوي الأزمة عبر البورصة بين 1995 و2000. وبحسب الاقتصادي السوري (د. قدري جميل)، كان الخروج إلى الحرب ضد الإرهاب عام 2001 مجرد ضربة استباقية للأزمة الاقتصادية التي نرى تداعياتها اليوم. هل سيتكرر المشهد؟ بالعودة الى حركة التاريخ الفعلية يتبين انه في الأزمات ذات الحجم الكبير كان الحل دائماً عسكرياً واتخذ صيغا مختلفة.
· الارتفاع الكبير الذي شهدته أسعار النفط. دفعت التجارة التي تغلب عليها المضاربة سعر النفط الخام إلى مستوياتٍ مفرطة، فبلغت ذروتها في تموز 2008. وباعتبار أنّ المؤسسات المالية و/أو المستثمرين قادرون على التلاعب بحركة أسعار النفط الخام، وذلك لمعارفهم السابقة ولمهارتهم في تحديد زمن الارتفاع المضاربي وانهياره التالي، فقد تمكنوا من جني مبالغ طائلة أثناء حركة صعود أسعار النفط الخام وهبوطها. وهنا لا بد من الإشارة الى ملاحظة على بساطتها الظاهرية مهمة جدا وتتعلق في واقع ان ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية كانت تشجعه الولايات المتحدة لأنه يؤدي إلى تخفيض قيمة الدولار وبالتالي قدرة السلع الأمريكية على المنافسة في الخارج من جهة، يقابله تباطؤ الأسواق المنافسة خاصةً الأوربية والصينية.


وخلاصة القول، إن الأزمة التي شهدتها الأسواق المالية العالمية أخيرا هي واحدة من تجليات ظاهرية لأزمة كانت ولا تزال تعتمل في حقل الإنتاج وتتمظهر في " تقلبات وتذبذبات " حادة في حقل التداول تشبه عملية طحن قوية. وهذا يعني أن الأزمة البنيوية للرأسمالية ما زالت " على قيد الحياة " وليس كما يصورها إيديولوجيو الليبرالية الجديدة بأنها غادرت المسرح الى غير رجعة !!



الشرارة: ما هي أبعاد الأزمة على العالم لا سيما البلدان النامية؟

د. صالح ياسر: بالرغم من أنه من المبكر إجراء تقييم متكامل للآثار التراكمية للازمة الحالية لأنها ما زالت تطحن الجميع بدون استثناء وان بشكل متفاوت، غير انه يمكن الاستنتاج بأنه سيكون لهذه الأزمة آثار بعيدة المدى على قطاعات مختلفة. ونظرا لان القانون الناظم للتطور الحالي هو قانون التطور المتفاوت فانه يمكن القول أن تكاليف الأزمة الحالية لن تتوزع بالتساوي على البلدان والقطاعات الاقتصادية والناس عموما، بل سيسحق الكبار من المضاربين المستثمرين والمضاربين الصغار، وبالتالي سنكون أمام موجة انكماش جديدة بل وحتى ركود طويل المدى، رغم كل ما اتخذ من إجراءات.

دون الدخول في تفاصيل كثيرة يمكن القول ان تداعيات الأزمة الراهنة يمكن ان تتخذ عدة تجليات نشير الى البعض منها:
- سيفشل المزيد من المصارف؛
- كما ستزداد التعاسة في الأسواق الماليّة؛
- وسيخسر الموظّفون، الذين لا يهمّهم إذا ما خسر المستثمرون الكبار أموالهم، وظائفهم. والحديث هنا لا يدور عن الرؤساء الأغنياء الذين سبّبوا كلّ هذه الفوضى (والذين سيغادرون حاصلين على أرباحهم وتقاعدهم)، إنمّا عن عشرات الآلاف من ذوي الدخل المتوسّط الذين وضعوا كل مدخّراتهم في أسهم المصارف التي يعملون فيها، والتي أصبحت دون فائدة بعد اليوم.
- وسيؤدي ذلك إلى كفّ الناتج القومي الإجمالي عن الارتفاع، والى تراجع مؤشّرات النموّ في البلدان الصناعيّة، وإلى فشل الشركات وزيادة البطالة والتضخّم بشكل ملحوظ، خصوصاً أنّ العديد من المراقبين يشبّهون، بهامش كبير من المقاربة، ما يحدث الآن، بالكساد العظيم الذي ضرب الأسواق الماليّة خلال الفترة 1929 - 1933. هذا مع العلم ان الرأسمالية لن تتعافى إلا إذا حققت قانونها الأساسي (تحقيق أقصى الأرباح)، ولذلك، من الضروري، لتحقيق هذا الهدف، القضاء على عدد من الوظائف وضمّ شركات لأخريات أغنى. وقد بدأت هذه العمليّة في القطاع الماليّ وستتواصل في كلّ الاقتصاد، ولا احد بقادر على إيقاف هذه العملية لان لها منطقها الخاص.
- ومن جهة أخرى أكد رئيس البنك الفدرالي الأمريكي بأن نسبة النمو خلال السنة المقبلة (2009) لن تتجاوز 1 %. فقد أثرت الأزمة المالية على الاقتصاد الحقيقي، وظهر ذلك جليا في قطاع السيارات وفي قطاع البناء وظهرت آثاره في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوربا واسيا ويبدو أن أزمة البناء ستطال دولا أخرى. ومعلوم أن قطاع البناء يعمل على تشغيل العديد من الأيدي العاملة ومنها على الخصوص الأيدي العاملة المهاجرة وحيث ستعرف أموالهم المحولة شهريا إلى أسرهم نوع من الانحسار.
- سيؤدي التباطؤ ومن ثم الركود في البلدان الرأسمالية المتطورة الى انخفاض الطلب على المنتجات وبالتالي انخفاض معدلات الإنتاج مما يؤدي الى تسريح العمال وتنامي معدلات البطالة.
- وماذا بشأن دافعي الضرائب الذين سيطالهم إعصار الانهيار المالي وهل سيتمكنون من " الهرب بجلودهم " من هذا الإعصار المدمر من دون ضرر إضافي؟ الجواب: كلا. ومن المتوقّع أن يستمرّ الضغط ، ويطال ديون الشركات، ويضرب الصانعين الكبار للسيارات، وآخرين. وسيدفع المواطنون مئات مليارات الدولارات على الأقلّ، قبل أن تنتهي هذه "الفوضى العظيمة " أو ربما لن تنتهي أصلا إلا بعملية قيصرية لا احد يعرف كم سيكون عمق جرحها الغائر في بطن الاقتصاد الرأسمالي العالمي.

وفيما يتعلق بالبلدان النامية، التي تشكل جزءاً عضويا من الاقتصاد الرأسمالي العالمي، فإنها تعاني من الأثر الكامل للاضطرابات والأزمة الاقتصادية التي اندلعت في قلاع رأس المال في بداية السبعينات من القرن العشرين. وارتباطا بالركود الاقتصادي العالمي المتوقع في العالم الرأسمالي بعد انتقال الأزمة الى الاقتصاد الحقيقي فانه من المتوقع ان تتعرض البلدان النامية الى جملة من الآثار والتداعيات الناجمة عن اندلاع الأزمة المالية العالمية الراهنة ومن بينها:

· أول الآثار بل أهمها يتمثل في هبوط الطلب العالمي على النفط الذي يعد المصدر الأساسي للموارد المالية في العديد من هذه البلدان مما يلقي بثقله على البرامج الاستثمارية والخطط التنموية عموما.
· أما الدول التي يقوم اقتصادها على الاستثمار الخارجي فستشهد أزمة حادة من خلال تقليص هذا الاستثمار من تواجده في هذه البلدان أو أنه سيمتنع عن المجيء إليها أصلا. وبالنظر الى أن اقتصاديات البلدان النامية تعتمد أساسا على الأسواق الخارجية، فإننا يمكن أن نتصور حجم الكارثة التي تهددها. فهناك بلدان يقوم ثلاثة ارباع اقتصادها أو أكثر على الأسواق الخارجية، وهذا سيكون له انعكاسات كبيرة على الصادرات والواردات في آن واحد. ومن المتوقع أن تعانى ميزانيات الدول التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على رأس المال الأجنبي من عجز كبير في الحساب الجاري لها. وحتى يمكن معرفة حدة هذا التأثير حسبنا ان نشير الى ان الأسواق الناشئة تلقت في العام الماضي أكثر من 900 مليار دولار كتدفقات استثمارية ومن المتوقع أن تقل هذا التدفقات إلى النصف في عام 2009.
· كما ستنخفض عائدات التصدير وترتفع عائدات التوريد، وهذا سيكون له انعكاس مباشر على الاستثمار وعلى البطالة وعلى ميزانية الدولة وعلى المديونية الخارجية.
· واستكمالاَ للتأثيرات الاقتصادية على الدول الناشئة من المتوقع ارتفاع معدلات البطالة في العالم. فبحسب منظمة العمل الدولية فإن نسبة العاطلين عن العمل قد ترتفع من 190 مليون شخص إلى 210 مليون شخص نهاية العام القادم، وهو رقم قياسي جديد في البطالة العالمية.
· من بين آثار الأزمة المالية الراهنة هبوط أسعار الصرف وخاصة الدولار. وكثيرًا من الدول النامية يربط عملته بالدولار ويحتفظ بالاحتياطيات النقدية بالدولار وبالتالي فانه وعند حدوث أي هبوط لسعر الدولار فسيعني ذلك بالضرورة انخفاض مماثل في عملات تلك الدول.
· هناك الكثير من الدول النامية تعتمد في جزء كبير في ميزانياتها على الإيرادات السياحية. وارتباطا بالركود العالمي وما يرافقه من أحوال اقتصادية صعبة ستقل حركة السياحة العالمية مما قد يسبب ضررًا لهذه الدول.
· بسبب وجود الاحتياطيات الدولية والاستثمارات العائدة للدول النامية مودعة في مؤسسات المال الأمريكية، ونظرا لتتعرض هذه المؤسسات للانهيارات إلى جانب التخفيض المستمر لأسعار الفائدة من قبل الفيدرالي الأمريكي ستصاب هذه الاستثمارات والاحتياطيات العائدة للدول النامية بخسائر كبيرة. فمثلا من المتوقع ان تمنى الاستثمارات العربية في الخارج بخسائر ضخمة تقدر بحوالي (1.5) تريليون دولار، بعضها في شركات الرهن العقاري، وبعضها بالبنوك التي أعلن عن إفلاسها وتم بيعها لبنوك أخرى. علما ان الأسواق المالية السبع في دول الخليج قد خسرت نحو (150) مليار دولار في الصدمة الأخيرة لتتراجع قيمتها السوقية مجتمعة الى نحو (800) مليار دولار ومن المتوقع تزايد حجوم هذه الخسائر. هذه الخسائر الضخمة للأموال العربية لم تكن الأولى فقد سبقها في السنوات الماضية خصوصاً خلال الأعوام 2005 و 2006 خسائر مالية وصلت الى أكثر من 600 مليار دولار ضاعت في المُضارات العقارية وفي البورصة. وهناك أيضا مخاطر على مستقبل الصناديق السيادية، والتي تمتلكها بعض بلدان الخليج، والتي تقدر استثماراتها بنحو (750 - 800) مليار دولار، حيث منيت هذه الصناديق بخسائر كبيرة خلال العام الفائت

الشرارة: هل للازمة تداعيات على الاقتصاد العراقي؟

د. صالح ياسر: قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة الى القضايا التالية:
- بيّن مسار الأزمة المالية الراهنة ان البورصة العراقية لم تتأثر بشكل قوي بالأزمة العالمية لكون سوق الأوراق المالية العراقية مغلقة على نفسها، حيث ان المستثمرين في السوق ليس لديهم نشاطات في البورصات العالمية والخليجية، كما ان المصارف العراقية ليست على احتكاك بالسوق العالمية.

- كما ان تداولنا ما زال يدويا فقد تأخر تطبيق التداول الالكتروني لبورصة العراق مما جعل السوق أكثر انغلاقا على نفسه. وفي هذه الحالة ينطبق علينا المثل المعروف: رُبَ ضارة نافعة ! فلو كنا أكثر ارتباطا بالعالم من الناحية التكنولوجية واقل بدائية، لكنا أكثر عرضة للأزمة لان كل المستثمرين فيها مرتبطون الكترونيا بأكثر من بورصة، لذلك فهم أكثر تعرضا للأزمات.

- وفيما يتعلق بالمصارف المساهمة في سوق العراق للأوراق المالية فإنها ليست استثمارية جميعها لذا فان تأثير الأزمة في هذا المجال كان ضعيفا. علما ان الاستثمارات الموجودة في سوق العراق للأوراق المالية ليست بالحجم الكبير والواسع لذلك فان التأثير حتى وان ظهر فان نسبته ليست كبيرة، كما في البلدان الأخرى.

- ان السوق المالي يركز عمله في السوق المحلي إضافة الى الضوابط التي وضعها البنك المركزي بداية العام الحالي للحد من المخاطرة التي تتحملها المصارف العراقية غير الحكومية في جميع المجالات أدت بشكل كبير الى توازن في العرض والطلب.

غير أن هذه الملاحظات لا تلغي حقيقة ان العراق لن يكون بمنأى عن الأزمة المالية العالمية وتداعياتها. هنا يتعين إثارة الانتباه الى خطأ ما يروج له بعض المسؤولين وصناع القرار في بلادنا عندما يحاولون التقليل من الآثار المتوقعة للازمة أو تبسيط الأمور وكأننا سنكون خارج آثارها التدميرية. فمنطق الأشياء يقول ان الاقتصاد العراقي لن يكون بمعزل عن تلك الآثار السلبية لهذه الأزمة لجملة أسباب من بينها:
- طبيعة الاقتصاد العراقي. فهو اقتصاد ريعي، مشوه وأحادي الجانب، يعتمد في تطوره على العوائد النفطية، وهذه سوف تتأثر بحدة نتيجة الركود الاقتصادي العالمي الذي سوف يستتبع الأزمة الحالية وهو ما واقع فعلا، إذ سيؤدي ذلك، من بين أمور عديدة، الى تقلص الطلب على النفط وانخفاض أسعاره، وبالتالي تقلص حجم العوائد النفطية وما يترتب عليه من آثار سلبية على عملية النمو والاستثمار نظرا لما تشكله هذه العوائد من نسبة طاغية في الميزانية الاتحادية.
- بسبب ان الجزء الأكبر من الواردات العراقية يأتي من الولايات المتحدة والبلدان الرأسمالية الأخرى المستورِدة للنفط فعلينا ان نتوقع المزيد من الآثار السلبية للازمة من خلال قنوات التجارة الخارجية وأيضا تقلبات أسعار صرف الدولار، وانعكاس ذلك على أسعار صرف الدينار العراقي.
- هذا وهناك قضية جديرة بالاهتمام وهي الأرصدة العراقية المودعة في " الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي " التي يمكن ان تتعرض الى مخاطر ناجمة عن الأزمة المالية وتداعياتها الأمر الذي يتطلب من الحكومة العراقية ان توليها الأهمية الضرورية وبما يحفظ المصالح الوطنية للشعب العراقي.

والخلاصة التي يمكن بلورتها من الملاحظات أعلاه هي ان المطلوب اليوم من الجهات المعنية ليس التمترس وراء أطروحة " أننا سنكون بمنأى عن الأزمة " أم التعتيم على الأزمة. فالمطلوب عكس ذلك تماما من خلال:

- الانطلاق من توضيح الآثار السلبية للازمة باعتماد الشفافية والوضوح من جهة، وتدشين نقاش مجتمعي حول جذور الأزمة والتداعيات السلبية المحتملة على اقتصادنا الوطني وسبل مواجهتها وتقليل آثارها السلبية.

- ان هذه الأزمة ودروسها يجب ان تدفع صقور الخصخصة على إعادة النظر في رهاناتهم لتطبيق هذه الوصفة دون قيد أو شرط ! تطرح إذن ضرورة مراجعة السياسة الاقتصادية عموما والسياسة المالية خصوصا بما يحقق التوازن المطلوب بين تدخل الدولة وحرية الأسواق لتجنيب بلادنا سلبيات نهج التجريبية والمواقف الأيديولوجية المسبقة التي تؤمن بالافضليات المطلقة للسوق والداعية إلى إطلاق الحرية الكاملة لحركته بغض النظر عن الآثار الاجتماعية لذلك.

- ليس صحيحا التركيز على الجانب المالي للازمة بل لا بد من الانتباه الى ما تتركه من تفاعلات من جهة وانتقالها الى حقل الإنتاج أو الاقتصاد الفعلي والركود الطويل المدى الذي شينشأ عنها هو الذي ينبغي أن يحضى بالاهتمام المطلوب من طرف المعنيين وصناع القرار في بلادنا. ولعل في مقدمة الإجراءات قراءة التجربة الفعلية واستخلاص الدروس المناسبة لجهة بلورة منهجية جديدة للتعامل مع الواقع، منهجية تتجاوز الرهان على أيديولوجية الليبرالية الجديدة وخياراتها " التنموية " التي ارتكنت عليها وصفات المؤسسات المالية والنقدية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

- ويعني ذلك ان التغلب على الأزمة البنيوية المتعددة الصُعد وإنعاش الاقتصاد العراقي يجب أن ترتبط ببلورة إستراتيجية تنموية وطنية تأخذ بالاعتبار الحاجات الملموسة لبلادنا ومجتمعنا واقتصادنا في لحظة تطوره الملموسة ومشاكله الفعلية. وبما يمكن من تحقيق شروط تنمية مستدامة تطال كافة فئات الشعب العراقي ومناطق وأقاليم البلاد, دونما تمييز, وفقا لثلاثة مبادئ أساسية:
· مبدأ الكفاءة في استغلال الموارد المتوفرة ؛
· مبدأ العدالة في التوزيع ؛
· مبدأ التغلب على التفاوتات الموروثة من الحقب السابقة.

- انتهى -

جميع ما ينشر في هذه المدونة للكاتب والصحافي نوري حمدان وهي متاح لجميع المؤسسات الاعلامية في استخدام. يتم التشغيل بواسطة Blogger.