فلاح المشعل
طابور طويل من الشباب كان ينتظر دوره لشراء موبايل آيفون 14 في أحد أسواق بغداد، تذكرت ذلك الحشد المتزاحم أمام إحدى المكتبات لحيازة نسخته من "الريل وحمد" المجموعة الشعرية، الأولى والوحيدة، للشاعر مظفر النواب مطلع السبعينات.
بين طابور الآيفون والتزاحم على كتاب شعر النواب زمن يمتد لخمسين سنة تستطيع أن تقرأ فيه تحولات المجتمع العراقي، تحول اهتمام القطاع الأوسع من الشباب نحو ثقافة الاستهلاك التي تعكس قشور الحضارة التكنولوجية التي ازاحت حضارة الإنسان التي تقوم على تربيته جماليا وفكريا وإنسانيا.
لا نستطيع
أن ننكر بأن التحول أصبح عالميا ولا يتوقف عند دول العالم النائمة فقط، بل
تلك هي الحضارة القائمة على مفهوم التسويق Marketing،
وافراغ الإنسان
من محتواه القيمي والجمالي، وصولا لفكرة نهاية التاريخ وموت الإنسان الذي كتب فيه
المفكر "فوكو ياما".
ثقافة "السوق"
سحبت ثوابت الوجود الإنساني نحو انقلاب الوجود عبر ثقافات شاذة ومنحرفة ولعل أبرزها
مشروع المجتمع الميمي وتعميم الإجراء القانوني للزواج المثلي، والتحول كيفما تشعر،
فإذا كنت تشعر بمشاعر الاعمى تذهب لإجراء عملية لعينيك لتطفئ نظرهما، واذا شعرت
بأنك امرأة تذهب للتحول الجنسي، والعكس صحيح.
توجه الحضارة
الغربية الآن الى تحقيق فكرة تقليص عدد الوجود الإنساني نحو المليار الذهبي،
وتعظيم الارباح الواردة من قشور الحضارة وماكنتها المالية العملاقة، كذلك في توظيف
حتى المقدس في الطبيعة الانسانية بهدف الامتلاك وتنمية فكرة التسويق والنزعة
الاستهلاكية في نظام عولمة، وضع الفخاخ لدول ومجتمعات مغايرة وسحبها لمنطق التسويق
كالصين ودول اوروبا والعديد من دول آسيا وافريقيا التي كانت تناهض الفكر الغربي
وتحافظ على مبدأ حقوق الشعوب وثقافتها المتنوعة، بل نجد اختفاء الظاهرة العالمية
التي استقرت بعد الحرب العالمية الثانية بوجود قوى أو دول الشر وتقابلها قوى أو
دول الخير، بل جميع الدول بالعالم دخلت في حمى التنافس والتسابق حول قوانين السوق
والامتلاك.
من هنا بدأ سلوك
العولمة وترويج نزعة الاستهلاك تسحب العالم لفروض السوق، وفي ظل غياب ثقافة وطنية
تحافظ على سلوك ونمط التفكير الجماعي للشعب، تتجلى مظاهر الانسياق والارتباط
بثقافة التسويق والاستهلاك أكثر من أية جاذبية أخرى، وهنا نتلمس ضعف الرادع
الثقافي الوطني والانحدار نحو الفراغ والمظاهر الزائفة والزخم الاعلاني بأنها من
ضرورات الحياة الحديثة.
في ظل هذا
التحول في الانتقال الثقافي من رصيف الفكر وجمالياته الانسانية، الى فخاخ السوق
والامتلاك والفراغ المعنوي والمظاهر السطحية، وغياب الثقافة العراقية الوطنية
الصلبة والحرة التي تحصن العمق المجتمعي، يصبح من السياق الطبيعي أن يتحول التجمع
المتزاحم في بغداد على شراء آيفون 14 رغم ثمنه الباهض، بدل شراء كتاب شعر أو ثقافة
تؤصل معاني الحس والثقافة الإنسانية، والمعرفة التي تقاوم الظلم واضطهاد الإنسان
واستعباده في ماكنة السوق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق