في الأيام الأخيرة تصاعدت المواجهة العسكرية بين
الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران والولايات المتحدة في العراق، لتدخل مرحلة خطيرة
مع انهيار تفاهمات التهدئة بين الحكومة والفصائل والاستخدام المتزايد للأخيرة للطائرات
المسيرة في استهداف الوجودين الدبلوماسي والعسكري الأميركي في البلد.
تكمن خطورة هذه المواجهة الأخيرة في أنها تبرهن
الهيمنة الفعلية، وليس المؤسساتية، للفصائل المسلحة على القرار الأمني والعسكري في
العراق فهي تختار أوقات التصعيد والتهدئة العسكرية بإزاء الوجود الأميركي، وعبرها تتحكم
بإشعال أزمات سياسية داخلية وإقليمية، من دون قدرتها على التحكم بنتائج هذه الأزمات،
ورفضها تحمل النتائج السلبية لمثل هذه الأزمات.
في المقابل، تبدو الحكومة العراقية غائبة عملياً،
إذ اختارت هذه الحكومة منذ البداية السبل السياسية والدبلوماسية لاحتواء هذه الفصائل:
السياسية من خلال التفاوض مع هذه الفصائل مباشرةً وتوسيط جهات عراقية سياسية للتأثير
عليها، والدبلوماسية عبر التواصل مع إيران، حليفة هذه الفصائل وراعيتها، للضغط عليها
بغية احتواء سلاحها ومنع تحديها للدولة العراقية التي يُفترض ان هذه الفصائل جزءٌ من
قواتها المسلحة.
عبر استخدام الوسائل السياسية والدبلوماسية هذه،
تقوم استراتيجية الحكومة على التهدئة مع الفصائل وشراء أكثر ما يمكن من الوقت وصولاً
إلى الانتخابات العامة، التي يمكن أن تنتج خارطة سياسية مختلفة تسمح بالتعاطي الأفضل
مع هذه المشكلة، أي ترحيل الأخيرة للحكومة المقبلة.
لكن حتى هدف التهدئة هذا المتواضع نسبياً يبدو صعب
المنال الآن، خصوصاً في ضوء التصعيد الأخير، فمنذ صيف العام الماضي عندما استأنفت الفصائل
المسلحة استهداف السفارة الأميركية وأماكن وجود القوات الأميركية، لم تتمخض جهود الاحتواء
الحكومية إلا عن اتفاقات تهدئة مؤقتة مع الفصائل لا تلبث هذه الأخيرة أن تخرقها بالتوقيتات
والطرق التي تختارها هي لتحرج الحكومة وإظهارها عاجزة أمام السلاح الميليشياوي الذي
يُكرر تحديها. فأهم اتفاق تهدئة توصلت إليه الحكومة مع الفصائل في فبراير الماضي، بتدخل
إيراني وتَضمنَ عدم استهداف السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء ببغداد، انهار في
التصعيد الأخير عندما قصفت الفصائل السفارة الأميركية.
أميركياً، يبدو أنه لا خطة للتعاطي مع تحدي الفصائل،
باستثناء الردع العسكري المحدود الذي لا يشعل صراعاً أوسع في المنطقة. جاء التبني الأميركي
للردع المحدود رداً على ما تعتبره واشنطن عجزاً حكومياً عراقياً عن منع الفصائل استهداف
الوجود الأميركي في البلد، خصوصاً مع تطور القدرات التقنية للفصائل وانتقالها من استخدام
صواريخ الكاتيوشا الضعيفة في دقة التصويب والممكن رصدها بسهولة وإسقاطها إلى الطائرات
المسيرة ذات الدقة الأعلى والقدرة على تجنب الرصد الراداري.
لحد الآن تبدو الحكومة متمسكة بأسلوب التهدئة المعتاد،
وعلى الأكثر سيظهر هذا التمسك في زيارة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لواشنطن نهاية الشهر
الحالي، فالمتوقع أن يمضي الكاظمي بخطوات أخرى لتسريع انسحاب القوات الأميركية من العراق
على طريق تلبية طلب الفصائل الرئيس بانسحاب كامل ونهائي لهذه القوات من العراق الذي
ينسجم مع الرغبات الإيرانية.
لكن لن يقود حتى الانسحاب الكامل المحتمل للقوات
الأميركية إلى حل مشكلة الفصائل المسلحة، بل بالعكس قد يزيدها تعقيداً، فإحساس الفصائل
أنها انتصرت على الولايات المتحدة وأجبرتها على الانسحاب من العراق سيُترجم على الأكثر
في المزيد من تحدي هذه الفصائل للحكومة والتمدد في الدولة وعليها من خلال تأكيد هذه
الفصائل أنها حامية الدولة عبر السردية "الوطنية" الدعائية التي تروج لها.
خلاصة هذه السردية هي أن الفصائل حررت العراق من احتلالين: الاحتلال "الداعشي"
أولاً و"الاحتلال" الأميركي" ثانياً. في ظل هذا "الدور الوطني
الاستثنائي" الذي ترسمه الفصائل لنفسها، سيصبح حينها مستحيلاً أن تنزع أسلحتها،
عبر محاججتها أنها الضامنة لاستقلال العراق وسيادته وأن هذا الضمان لا يمكن أن يستمر
دون امتلاكها السلاح وتحكمها باستخدامه.
بقاء هذا السلاح خارج إطار الدولة وبالضد منها أحياناً
مشكلة عراقية بالدرجة الأولى، وليس مشكلة أميركية أو إيرانية، وتحتاج حلولاً عراقية،
وليس فقط مساع للتهدئة غالباً ما تفشل. ثمة من يظن أن مشكلة "السلاح المنفلت"
لن تحل إلا بمواجهة عسكرية حاسمة بين "قوى الدولة" و"قوى اللادولة."
ليس هذا بالضرورة صحيحاً فلدى الدولة العراقية أدوات مؤسساتية لحسم هذا الصراع سلمياً،
في حال استخدامها هذه الأدوات بتنظيم وإصرار عاليين.
الأداة الأهم هي الأمر الديواني رقم 237، الذي أصدره
رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي في 2019، وتضمن خطوات عملية لمأسسة الحشد الشعبي،
وإخضاعه للضوابط والقوانين العسكرية التي تخضع لها القوات المسلحة، باستثناء الفقرات
القليلة التي استثناها قانون هيئة الحشد الشعبي الذي مرره البرلمان العراقي في نوفمبر
2016. نص هذا الأمر على أن تجري الممأسسة في خلال شهر واحد.
حينها وافق الحشد على تنفيذ الأمر الديواني لكنه
طلب المزيد من الوقت لتنفيذه. في آخر المطاف لم يُنفذ الأمر بسبب صعود المواجهة الإيرانية-الأميركية
في العراق في صيف ذلك العام، ثم مجيء حركة احتجاجات تشرين التي أدخلت الحكومة والحشد
في حالة عميقة من القلق الأمني والسياسي.
من خلال تطبيق هذا الأمر الديواني كاملاً، يمكن
إخراج الحشد من المدن ووضعه في معسكرات خارجها كما هو حال قوات الجيش، واستبدال زعماء
التشكيلات العسكرية فيه (السرايا والألوية مثلاً) من ذوي الانتماءات السياسية بضباط
من المؤسسة العسكرية، فضلاً عن اتخاذ سلسلة إجراءات أخرى نصت عليها الضوابط العسكرية
العراقية تمنع استخدام القوات المسلحة لأغراض تتعلق بالانشطة السياسية والاقتصادية.
بالتأكيد سيرفض الكثير من زعماء الحشد هذه المأسسة لأنها ستنزع الطابع الأيديولوجي
والاقتصادي للحشد بشكله الحالي، لكن يمكن للحكومة خوض هذه المواجهة سلمياً عبر الضغوط
المؤسساتية والبرلمانية والسياسية والشعبية والاحتجاجية، وبينها استخدام حقها القانوني
بإنفاق الأموال المخصصة للحشد (بحدود ملياري وربع المليار دولار في ميزانية
2021) على الوحدات التي تلتزم بتنفيذ الأمر
الديواني فقط. ستكون هذه الطريقة المناسبة لعزل الفصائل الحشدية فعلاً عن الفصائل الولائية
وإنقاذ الحشد الشعبي من السمعة السيئة التي تعلق به بسبب سلوك الفصائل المسلحة غير
القانوني.
الإصرار العلني على التنفيذ الكامل لهذا الأمر الديواني
أفضل بكثير من صفقات التهدئة السرية والمؤقتة التي تلجأ إليها الحكومة حالياً، ولم
تقد لا إلى الهدوء الأمني ولا الاستقرار المؤسساتي.
بقلم دكتور عقيل عباس
منقول من المصدر من دون تصرف: سكاي نيوز عربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق