الثلاثاء، 26 فبراير 2019

الرئيسية " طائر التلاشي".. قصدية الخطاب بين النص والكاتب

" طائر التلاشي".. قصدية الخطاب بين النص والكاتب

بقلم الكاتب خليل مزهر الغالبي
حرص الكاتب محمد رشيد الشمسي في روايته "طائر التلاشي" على إبقاء باب التلقي مفتوحاً لتحديد هوية الجهات البشرية المتضمنة وزمكانيتهم، ولم يحددها في ما قبل المتلقي كما عند عتبة مسميها كما الروائي العالمي "فكتور هيغو" وهو يحدد مدينة احدب "نوتردام" في روايته "احدب نوتردام" او الروائي العراقي في تحديد مدينة انبثاق فرنكشاتين في بغداد، لكن رواية الشمسي لم تذكر في عنونتها بمثل "طائر التلاشي في العراق" بل ومكان لمدينة او اشارة لأبطالها وحتى لمسماها دالة على علاقة احداثها في العراق ، بل تركته مفتوحا لإدراك ونباهة القارئ.

ومن استقراء قراءتنا ومستنتجها التي تؤكد حرص الرواية وكثيرا على محاكات الواقع الرديء لعراق ما بعد التغيير والمكمل لرداءة وتعاسة وآلام عراق القبل، ومن الاشارات الواضحة بعد التغير لذلك...

1. تهديم اهالي الجزيرة لمعابد آلهتهم القديمة، آلهة السلطة القومجية المستبدة وبناء معابد جديدة لآلهة الاحزاب الدينية الجديدة كما في هدم سكان عراق ما بعد التغيير.

2. قرار الحاكم تغيير الدين الذي يدين به سكان الجزيرة ليعبدوا الطائر العاطل المصيّر لتلاشيهم.

3. كانت التظاهرات التي تكررت في الرواية تأخذ روح الرفض من اجل التغير، لتتحول الى استجداء الحاكم وهذا ما صارت ووصلت اليه تظاهرات العراقيين لعدم سماع السلطة لها وتنفيذها.

4. ظاهرة كذب ونفاق الحكام والمسؤولين في اعطائهم الوعود الخاصة بالسكان وهو ينفخون بروحهم المثقوبة، وهم عقول عاطلة تتبع الخرافة في القرارات والاجراءات.

5. أشارت الرواية في أوراقها الختامية إلى عبثية التظاهرات المطالبة لحقوق السكان في الحياة واستسلامهم في التيه الخطير وهم محملين بالألم وبما يؤكد على مخفي المخطط في تدمير البلد ومن سرقة اموال الدولة اولاً و بقاء كارثة الارهاب.
هكذا ينهي الشمسي فصول روايته التي اعتمد على بناءات مكوناتها السردية على الفنطازية والغرائبية. ليجذب ويضع القارئ أمام كم هائل من التساؤلات التي تبحث عن إجاباتٍ لها.
الكاتب خليل مزهر الغالبي
ولأن ينجح الكاتب في الخاصية الفنية لاشتغالات السرد الفنطازي لكتابته الروائية ،عليه ان يوفر قبول التلقي الغريب القانع بمعقولية لامعقولية هذا السرد وواقعية لاواقعية تضمينات ثيمته، وهو قبول ناجز لعبور أشكلة العجيب الغريب المصاحب لقراءة مكونات هذا الروي، والمتأتي من طبيعة تعارض الميتافيزيقي للسرد الفنطازي مع فيزيقية حراك الواقع، ولابد هنا من تحبيك سردي عابر لشكلنة الوصف والروي والدخول القرائي الغائر لما خلفها واستلهام المضمون والقصد المخفي له والمسكوت عنه.

ويشكل السرد الفنطازي ذلك الذهول للقارئ ليربك حواسه ويتيه التعيين لديه بين ما هو حقيقي و ما هو خيالي. ومن بناءات السارد وقائعه من غيبية الخرافات و الحكايات الشعبية والأساطير. ومحاولة توصيفها المقارب للواقعية السحرية، وكما في حكايات قصص الجان، و البساط السحري وغيرها لإشاعة القبول لها.

و"الفانتازيا" كمصطلح حداثي - بصورة نسبية - أصبح صالحًا للتعامل مع الكثير من الفنون المختلفة كالرسم والموسيقى والتصوير والسينما وانتقل مؤخرًا إلى الواقع الأدبي-ولاسيما السردي - فتماهى مع الواقعية السردية والعجائبية- وهي عند ت. ي. ابتر "القوة الدافعة وراء استبطان الواقع".

ومن عنونة الرواية ومسميها "طائر التلاشي" الجامع لنقيضين، حيث المفهوم الشائع للطائر وليس بتسمية "طير" له دالته البعيدة عن الجمود والتلاشي لكونيته الاكثر حركة وهي الطيران بمعناها المتوجه للانفلات الى الأعالي والتحرر عن المسك به، هذا المسك الحاد لحركته والرامية به الى الجمود والفقد لمكوناته وخصوصياته الاخرى، وبين الكلمة الاخرى المكملة للعنونة "التلاشي" المفارقة بضديتها لكلمة العنونة الاولى وهي الطيران، وبأسمى دالة الطيران في الحركة حيث الطيران والمقترن هنا بتوجهه الاوسع والرحب وهي اعالي الفضاء وبمعناه الحياة وبكل جماليتها.

ولا بد هنا من حوار قرائي نابه للنص بوصفه كينونة أنطولوجية ليكون حوارنا النقدي لها بلا حجبٍ عن أصلها المشاكس ومدى تحقيقها المعادلة الجمالية للسرد، وبلوغ مضامينها لاستكمال خطابها الادبي كمستخلص نهائي مؤنسن ذاهب الى رفض القبح الذي يحط ركابه في حياة المجتمع وكما في رفض موضوعة التلاشي الذي يقود اهل الجزيرة الى الفقد والموت الانساني بدل الموت الجسدي الطبيعي لكل البشر.

وقد تشكل البناء السردي للرواية من جمع فاعل للرؤى الأنثروبولوجية والأيديولوجية والسوسيولوجية التي اعتنت بها الرواية كملاصقات فكرية للثيمة المشكلة بين قبول اهالي الجزيرة لما هم فيه وبين الدعوات المستمرة لرفض هذا القبول المهلك لهم، ومن التظاهر و الوقوف امام بيت الحاكم، ومن تناقض الموقفين، يظهر لنا تلك الثقافتين المتناشزتين لأهالي الجزيرة، وهي الثقافة القابلة والقرينة لقسرية حاكميات الموروث وسلطته غير القابلة للتغيير، حتى يصيبهم المجتمع بالعصاب ويطاردهم ، وهي من مضمرات حكاية الرواية و خطابها الادبي.

ويتبلور الخطاب الادبي للرواية من مراجعة الذات الموغلة في عطب العقل واسترخائه الممتد في عطالته، والمتمثلة في اكل ذلك الطائر "توخالو" بتعبيره المجازي الواسع والمتنوع والحامل لاسم الجزيرة، والدعوة الى مراجعة الثقافات المعطلة والسالبة لحرية العقل والانتفاضة للتغيير ومنها البحث عن الحل السليم لمشاكل حياتهم الموغلة في التلاشي كمخلوقات انسانية.

ومن دالة تناولهم اليومي لهذا الطائر واستلذاذ أكله، وبمعنى قبول بساطة حياتهم اليومية القائمة على القديم الفاقد للعقلانية والمهدد لهم والمستمد من ثقافة الغيب والخرافة وهم يستلذون في محكيها كشطارة لهم والتي صورها الروائي "م الشمسي" بلذة اكلهم الطائر "توخالو" والذي حذرهم "تخاخا" من اكله اليومي له وبمعنى تلاقفهم لمحكياتهم القديمة الجامدة التي لا نفع فيها لحياتهم ولا حل لمصاعبهم، نعم لقد دعا الخطاب الروائي هنا الى الرفض والاحتجاج لحالات السلب والظلم للإنسان، وما تعيشه شخوص الرواية من رعب التحول بوصفه اغتراباً، كما تجسد في تقزيم سكان الجزيرة وتلاشيهم ومن اهمالهم لأنفسهم اولا كقيم انسانية تستحق الحوار الفاعل المتحضر من اجل الرجوع بالحياة الى فعلها الانساني. كما في توصيف تصدي والد "تخاخا" ومن بدء الرواية في تجسيد حالة الرفض الشديد لرداءات الحياة و الغائها...فلم يأبه الوالد لصراخ اهالي الجزيرة والذي يطن في اذنه منذ نعومة اضفاره ولم يأبه لوعيدهم بالقتل في اول مواجهة معهم ".....حيث طرد وضُرب على قفاه بحجر وقذف في وجههِ الرمل، سدّت إحدى عينيه" ويلقى اخيرا في البحر ليأكله سمك القرش، ومن تأصل وشدة تمسكه بأفكاره الرافضة وديمومتها لديه أوصى ولده "تخاخا" أن يواصل الدرب ويواصل خروجه اليومي المحتج.

وكما في خطاب الابن في تجمع لسكان الجزيرة "إني خائف عليكم، ستتلاشون مثل هذا الطير، كفوا عن أكله، اذهبوا الى صيد السمك والحيوانات البرية والطيور الاخرى، هذا الطير جعل كل واحد منكم مخدراً، لا يقوى على فعل شيء، أو أي عمل فيه جهد، لقد دب الكسل فيكم، اكتفيتم بالاعتماد على شيء جاهز، إذ الطير يتكاثر بشكل لا يصدق دون عناء".

ولم ينس محكي الرواية ان يؤكد على فقر حال اهالي الجزيرة ومن توصيفها لشكل وحالة "تخاخا" الضامر والمتماثل مع صيرورة مفهوم التلاشي كما في توصيف خروجه المحتج والمحرض للأهالي "في صباح يوم ربيعي مشمس، خرج تخاخا ذو الشعر الأسود المجعد القصير، وبشرة حالكة السواد، وهو على خطى أبيه الذي لم يبكهِ أبداً، سار بخطوات ثقيلة، وهو شبه عارٍ حيث يرتدي أقمشة بسيطة على جسمه كحال جميع سكان جزيرة "توخالو"، في أرجاء ساحاتها الواسعة من بيته الخشبي الصغير، وصدره العاري يوحي بضعف جسمه".

وبما تجوس في عوالم سكان الجزيرة من "المسكوت عنه" وبما يجس عن شفرات اغترابها ورعبها الداخلي، حيث ينفضح عريها الماسخ.

ان شخصيات الرواية نماذج مشوهة وأضحية للسلطة العطلة، ومنهم النماذج الفاعلة لخلاصها عبر التصدي والانقلاب على الزيف والغلو في الفساد، ومن قصدية الكاتب لمقاربته سلطة العراق وما يجري في البلد بما فيها من زيف السلطة المانعة للتغيير كما في نموذج شخص "تخاخا" ومن قبله والده.

وتبقى الرواية تحاكي مشاغل الانسان الوجودية واغترابه، ومنها العبثي في حروب سلطوية وأهلية واخرى خارجية ممتدة لتسلب وتدمر الانسان والوطن، مثل ظاهرة احتلال جزيرة " مانواتو" ووصف وحشية تلك الحرب ودمويتها، والمقاربة المذكرة القارئ بالحروب التي عاشها المواطن العراق وكما وصفها"... وكيف سبيت نساؤهم وقتل اطفالهم وكيف قتل رجالهم وشبابهم؟! وكيف هربوا؟!"، والقارئ هنا يرى بأم عقله ازدحام امنا الارض بهذه الحروب وخاصة بأرض الشعوب المقاربة لمفهوم التلاشي لفقدان او ضعف الحس الوطني.

ان تحول السارد "محمد رشيد الشمسي" هنا للموضوعي في محكي ثيمته ومنه الحوار الدائر والكاشف لتضميناتها وفق عنصر التخيل، كراءٍ فنطازي يستدرج قارئه الى تتبع سيرة الثيمة المحكية، عبر ثنائية المفارقة العجائبية، والغرائبية، لاستكمال تراتباته المنضجة لثيمة الرواية واستكمال خطابها الادبي بإيصال قانع. وعلى المتلقي حرصه الرابط للثنائيات المتقابلة والمتقلبة بين المتخيل وواقعيته للمسك بكل غريب وعجيب في محور الرواية التي حرص الكاتب على تكوين هذا الخطاب باستجلاءات كثيرة تطرق لها في سرده.
ثقافية جريدة طريق الشعب
العدد 133 السنة 84 الثلاثاء 26 شباط 2019
جميع ما ينشر في هذه المدونة للكاتب والصحافي نوري حمدان وهي متاح لجميع المؤسسات الاعلامية في استخدام. يتم التشغيل بواسطة Blogger.