الاثنين، 3 أكتوبر 2022

الرئيسية هنا لندن..

هنا لندن..

هنا لندن..

 

ياسر عبدالعزيز – كاتب وصحافي

بعد دقات بغ بن الشهيرة؛ تدق دقة واحدة، يأتي بعدها صوت محمود المسلمي الرخيم: "سيداتي وسادتي.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الواحدة تماما في لندن بتوقيت غرينتش.. عالم الظهيرة".

كانت الشوارع مزدحمة والجو، رغم الشتاء، كان دافئًا يميل إلى الحرارة. وعلى الرغم من أن المسافة من ميدان الدقي إلى حي المنيل ليست طويلة، فإنها كانت في الغالب في هذا التوقيت تستغرق ساعة إلا بضع دقائق، وهو وقت كاف لأستمع إلى الإذاعة عبر مذياع سيارة العم جمال هويدي جارنا في السكن والمهندس الزراعي الذي كان يعمل في وزارة الزراعة بالقرب من مدرستي ومدرسة بنته، والذي كان اتفاقه مع أبي أن يرجعنا من المدرسة على أن يتولى أبي المهمة في الصباح، كان الوقت كافيًا لكي أتعرف بل أعتاد وصولًا إلى حد الارتباط بهذه الإذاعة التي كانت في نظرنا تنقل ما لا يمكن أن نعرفه من الإعلام الموجه في زمن مبارك.

كان والدي مهندسًا في هيئة حكومية يعود إلى البيت في تمام الرابعة وهو موعد عودتي من المدرسة قبل أن يسبقني إخوتي، لنجتمع على مائدة الغذاء في ترتيب عسكري نظمته لنا الظروف، وكانت تلك المائدة منتدى صغيرا، فبعد الاطمئنان على أحوال الأسرة، غالبًا ما كانت النقاشات سياسية، وكنت أود دائما المشاركة كما إخوتي، فكانت إذاعة "بي بي سي" هي نبعي لأفيض على مائدتنا بالأخبار بل بتحليلات جلّها منقول من تحليلات ضيوف "عالم الظهيرة" الذي يتاح لي سماعه مع العم جمال أثناء عودتنا من المدرسة، ولأن المائدة منعقدة طوال العام كان لزامًا ألا أغيب عن وجبة الظهيرة من "بي بي سي" حتى أظل في صدارة إعجاب أبي.

بعد 84 عامًا من البث، تخرج الأخبار بأن "بي بي سي عربي" ستغلق!

الإبداع، إنه ما جعلنا نرتبط أكثر بهذه الأصوات التي لم نعرف أصحابها، كانت فترة تمتد ساعتين على ما أتذكر، أذابتنا فيها المشاعر الأسرية والارتباط العائلي؛ ارتباط استطاعت "بي بي سي عربي" أن تربط به العرب من المحيط إلى الخليج وتجمعهم في بيتها عبر أثير إذاعتها

كيف لهذا الميكروفون الذي طالما أمتعنا حتى ارتبطنا بمذيعيه ارتباطًا أسريا أن ينطفئ؟ كيف لهذا الأثير الذي ارتبطنا ببرامجه كرافد مهم من روافد الثقافة السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية والفنية أن يختفي، لا أستطيع أن أتخيل أن يسكت ذلك الميكروفون الذي أحببنا من خلاله جميل عازر قبل أن نعرفه على شاشة الجزيرة ومديحة المدفعي وأيوب صديق وفؤاد عبد الرزاق وهدى رشيد.

لقد كانت ولا تزال "بي بي سي" مدرسة صحفية بالمعنى الحقيقي، وليست مجرد هيئة إذاعية، أما القسم العربي فمن خلال مذيعيه كوّن لنا حلمًا كبيرًا يبني شخصيتنا قبل أن نتجه إلى الإعلام فيبني ملكاتنا، ويكفي أن نقول إن أهم صرح إعلامي الآن في الوطن العربي (الجزيرة) بني على أكتاف كثير من صحفيي القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية.

ما زلت أتذكر احتفال الإذاعة بعيدها الذهبي، وكانت فترة مفتوحة بعد عالم الظهيرة، وكانت الفترة المفتوحة تتلقى الاتصالات من خلال رقم كان يتلى من وقت لآخر على مسامعنا، وكم وددت المشاركة، إلا أن الاتصالات الدولية في مصر وقتئذ كانت ضربًا من الخيال، وكانت الاتصالات مفتوحة للتهنئة، لكن الإبداع الصحفي من إعلاميي "بي بي سي عربي" كان في طرح سؤال على المهنئين مفاده: كيف تتخيل شكل المذيع الفلاني؟

إنه الإبداع، إنه ما جعلنا نرتبط أكثر بهذه الأصوات التي لم نعرف أصحابها، كانت فترة تمتد ساعتين على ما أتذكر أذابتنا فيها المشاعر الأسرية والارتباط العائلي؛ ارتباط استطاعت "بي بي سي عربي" أن تربط به العرب من المحيط إلى الخليج وتجمعهم في بيتها عبر أثير إذاعتها، لكن السر يكمن في الخلطة، حيث المصداقية والمهنية وحرية الرأي. لقد كنا نهرع عند كل حدث إلى الراديو لننقل المؤشر إلى حيث "بي بي سي" لنعرف الحقيقة، حتى ولو كان الحدث في بلادنا؛ إنه الفهم الحقيقي لمهمة الإعلام، نقل الحقيقة والتحليل يأتي لاحقًا مع عدم إغفال الرأي والرأي الآخر، لقد ربّتنا "بي بي سي" على صفتين وكبرنا عليهما؛ النقد والحرية.

كانت ولا تزال "بي بي سي" مدرسة صحفية بالمعنى الحقيقي، وليست مجرد هيئة إذاعية، لقد كان القسم العربي من خلال مذيعيه حلمًا كبيرًا يبني شخصيتنا قبل أن نتجه إلى الإعلام فيبني ملكاتنا.

لقد كان الخبر كالصاعقة، والسبب يصدق بسبب ما يعيشه العالم الآن من أزمة مالية يمكن أن تطول بسبب الحرب في أوكرانيا، التي يخشى كثيرون أن تتطور إلى ما هو أبعد من رقعتها الجغرافية. ولعل العنوان هو الأكثر في أثره لأن التفاصيل تهدئ من روع الصدمة، حيث قررت هيئة الإذاعة البريطانية لديها خطة لإعادة الهيكلة والتوجه إلى الرقمية، بسبب أزمة مالية. إذن، فإن الراديو قد أحيل إلى التقاعد، وحان وقت إطلاق رصاصة الرحمة عليه كما "خيل الحكومة"، والسؤال: هل يمكن للتحول الرقمي أن يشبع حنيننا إلى هذا التاريخ؟ لكن الخبر وإن كان يتحدث عن "بودكاست" فإنه لم يتحدث عن موقف القسم العربي في هذا التحول، وهل سيبقى أم إنه أيضا راح ضحية الأزمة المالية؟

تلك الأسئلة التي كنا نخشى أن يجاب عنها بما لا نريد، جاءت بما لا تشتهي السفن، على لسان مديرة خدمة "بـي بي سي" العالمية ليليان لاندور، وأوضحت أن الشبكة بحاجة إلى توفير 28.5 مليون جنيه إسترليني، ضمن جزء من المدخرات السنوية الأوسع البالغة 500 مليون جنيه إسترليني في محاولتها لجعل الشركة رائدة في المجال الرقمي، وذلك يعني أنه حتى الإنجليز عندما أرادوا أن يدخروا لم يجدوا غير العرب ليأخذوا قشتهم التي كانوا يتعلقون بها في خضم الأمواج المؤدلجة في بحر الإعلام العربي الموّجه.

وداعًا "بي بي سي عربي"، ووداعًا لصرح إذاعي ومدرسة إعلامية ومصدر الثقة الأخبارية.. أغلقت "بي بي سي" ومنحنى النجاح ثابت، بفضل حفاظ كوادرها على إرث من سبقوهم، لكن ما اكتمل شيء إلا أنذر بفنائه.

جميع ما ينشر في هذه المدونة للكاتب والصحافي نوري حمدان وهي متاح لجميع المؤسسات الاعلامية في استخدام. يتم التشغيل بواسطة Blogger.