رامي الشاعر – كاتب
ومحلل سياسي
أعلن الأمين العام
لحلف "الناتو"، ينس ستولتنبرغ، في قمة الحلف مؤخرا، أن روسيا تمثل "تهديدا
مباشرا" لأمن دول الحلف، والقادة يستعدون للتوقيع على حزمة كبيرة لأعضاء الحلف
في شرق أوروبا. كذلك جاء في تصريحات السيد
ستولتنبرغ أن عملية التصديق على عضوية السويد وفنلندا ستكون "سريعة على نحو غير
مسبوق"، مؤكدا على أن تصديق "30 برلمان" على هذه الخطوة سيتم بسرعة
لأن الحلفاء "مستعدون لإتمام عملية التصديق في أسرع وقت ممكن".
يستعد الحلف كذلك
لنشر مزيد من المعدات بالقرب من روسيا، بما في ذلك الأسلحة الثقيلة، كما يعتزم زيادة
حجم قوات الرد السريع من 40 ألف إلى 300 ألف جندي، ذلك علاوة على توقيعه على حزمة دعم
كبيرة لأعضاء الحلف في شرق أوروبا لإظهار موقف موحد ضد العملية العسكرية الروسية.
منذ بداية العملية
العسكرية الخاصة في أوكرانيا، تحقق جزء كبير من أهدافها، والتي أعيد التذكير بها: نزع
سلاح أوكرانيا، بعدما أصبحت بلا شك دمية في يد واشنطن، وبدأت عمليا إجراءات بناء أكبر
قاعدة أمريكية للناتو في شرق أوروبا لتهديد الأمن القومي الروسي، وضمان الوضع المحايد
لأوكرانيا، وعدم عودتها إلى النادي النووي، واجتثاث النازية التي لا زلنا نراها ونسمعها
في تصريحات مسؤولي النظام في كييف، وفوق هذا وذلك الحصول على الضمانات الأمنية لحدود
الدولة الروسية، بعد تمدد "الناتو" شرقا خلال العقدين الماضيين على نحو غير
مسبوق في تاريخه، وعقب ممارساته العدوانية التي كشفت عن أنيابها بمجرد أن بدأت العملية
العسكرية.
يقول السيد ستولتنبرغ
إن روسيا ستحصل على "مزيد من (الناتو) عند حدودها بدلا من العكس"، دون أن
يدرك، أن حدود روسيا هي التي ستحيط بأوروبا و"الناتو" معا، استنادا لمعلومات
مادة الجغرافيا التي يبدو أن ستولتنبرغ كان غائبا عنها في المدرسة الابتدائية. يكفي
أن تستخرج الخريطة لتعرف حجم روسيا بالنسبة لأوروبا.
لقد دار حديث ولغط
واسع بين صفوف المعارضة الروسية الليبرالية، مدفوعة الأجر من المخابرات البريطانية
ووكالة الاستخبارات الأمريكية، في بداية العملية العسكرية بأوكرانيا، حول تحركات في
الداخل الروسي "رفضا للحرب"، بل وتوقعات وتحريض علني واضح وفاجر لتحريك الشارع
الروسي، وإطلاق مظاهرات، حتى وصل الحد بالمعارض الروسي الشهير، ميخائيل خودوركوفسكي،
بتهديد أصدقائه من الماضي، بمقاطعتهم، واعتبارهم أعداء، لتخرج قائمة الحصار الأمريكي
في اليوم التالي (دون أدنى مبالغة) وتتضمن الأسماء الخمسة بالتحديد.
لم تنجح "الثورة
الملونة" لـ"إسقاط بوتين ونظامه"، ولم تتحرك مظاهرات بالآلاف ولا أقول
عشرات أو مئات الآلاف.. بضع عشرات هنا وهناك، مع تصويرهم وتصدير صور مزيفة لـ"طوابير"
أمام ماكينات النقود وبضع مقاطع فيديو عن أناس يتكالبون على أكياس السكر.. اختفت كل تلك “الثورة الملونة”
مع الأسبوع الثاني للعمليات العسكرية، بعدما أدرك الشعب الروسي الخديعة، وظلت البضائع
والسلع مكدسة في المحلات، بل وبدأ سعر الروبل الروسي في الاستقرار، ووصل حتى الآن إلى
أقل من معدلاته قبل العملية الخاصة، بسبب الإجراءات العقيمة والحمقاء التي اتخذها الغرب
الجماعي، أكثر من جملة الإجراءات الرشيدة والحكيمة التي اتخذها القطاع المصرفي والاقتصادي
في البلاد.
بعد فشل خطط "الثورة
الملونة"، اكتشف الغرب والولايات المتحدة ومعهما المعارضة الليبرالية الروسية
في الخارج والداخل أن الشعب الروسي في واقع الأمر يلتف حول رئيسه، وأن استطلاعات الرأي
تؤكد على ارتفاع شعبية الرئيس بعد العملية الخاصة لا العكس، خاصة وأن الاحتفال بعيد
النصر في التاسع من مايو أثبت أن الأمة الروسية تحتفظ في جيناتها لا في ذاكرتها بالنصر
في الحرب العالمية الثانية، وتعتبر ذلك أحد مقومات الأمة والشخصية الروسية. ومع النصر
العظيم في الحرب العالمية الثانية، بدأت مرحلة جديدة في العملية العسكرية الخاصة في
أوكرانيا، لتحقيق المهام المحددة لحماية دونباس، وتحقيق رغبة ملايين المواطنين الأوكرانيين
ممن يعيشون الثقافة الروسية في العيش بأمان وكرامة وحرية دون أن يظلوا تحت رحمة النظام
النازي في كييف.
بدأت خطة أخرى تتمركز
حول "اغتيال الزعيم"، وبدأ الخبراء والمحللون والمنجمون يتحدثون عن "الدائرة
المحيطة ببوتين"، وكيف يمكن لأحد من تلك الدائرة أن يقوم "بهذا العمل"،
وتحدثوا في برامجهم ليل نهار عن خطط، وانقسامات، وأجنحة، ومؤامرات، دون أن يكون لأي
من ذلك شعرة تربطه بالواقع، إلا أن الغرب والمعارضة الليبرالية ظلوا يعيشون في نفس
أوهامهم وعالمهم الخيالي الذي ينسجون فيه ما يتصورونه "روسيا المستقبل"،
بينما مستقبل روسيا الحقيقي بيد شعبها الذي اختار أن يخوض الطريق الصعب المستقل الحر
الواعي بقيمة وثمن هذا الاستقلال وهاتيك الحرية.
لم تنجح خطة "اغتيال
الزعيم"، فبدأ الحديث عن "مرض الزعيم"، وعاد الخبراء والمحللون والمنجمون
والأطباء هذه المرة للتنظير حول "المرض العضال" الذي يعاني منه الرئيس بوتين،
عافاه الله، وبدأ الحديث عن مرحلة "ما بعد بوتين"، لتنطلق البرامج هذه المرة
لمناقشة "الشخصيات المرشحة لخلافة بوتين"، وشكل الدولة والهياكل التي ستتغير
بـ"رحيل بوتين"، وغيرها من حكايات العجائز حول نار المدفأة.
لم يكن ذلك ببعيد
عن العواصم الغربية التي كانت في نفس الوقت تخرج بتصريحات تقطر كراهية وحقدا لا على
القيادة الروسية، وإنما على روسيا، وعلى الشعب الروسي، وهو ما زاد من التفاف الشعب
الروسي حول بوتين، وجعل منه فعليا في نظر الناس بطلا قوميا، يدافع بالفعل عن مصالحهم
وإرادتهم وسيادتهم ووحدة أراضيهم.
أما "الناتو"،
فظل في أوهامه، وعاد ليمارس عاداته القديمة في التوسع شرقا، وإمداد الدمية الأوكرانية
بمزيد من الأسلحة، التي لم يعد الأوكرانيون قادرين على استيعابها أو التدريب عليها،
وبدأت رحلة "النيران الصديقة" و"المرتزقة الأجانب" وغيرها من مظاهر
الفوضى وسط العسكريين والمدنيين على حد سواء، لتعيش الأمة الأوكرانية الشقيقة أصعب
أيامها تحت سيطرة النظام النازي في كييف، الذي لا يعبأ بمصير الأمة، قدر اهتمامه بالصور
الجذابة، والتمويلات الغربية السخية، والشعارات البراقة عن "الغد الغربي المشرق"
تحت الحكم الأمريكي والغربي.
إن ما يعانيه "الناتو"
اليوم لم يعد "الموت الإكلينيكي" الذي تحدث عنه الرئيس الفرنسي، إيمانويل
ماكرون، منذ ثلاثة سنوات، وإنما حالة مستعصية من الفصام "الشيزوفرينيا" التي
تمنعه عن تمييز الواقع، والعيش باستمرار في خيالات وأوهام الأحادية القطبية والرفض
المرضي لأي حديث عن الندية أو الضمانات الأمنية أو الحقوق أو حتى القانون الدولي وميثاق
هيئة الأمم المتحدة.
وحينما يخرج وزير
الدفاع البريطاني، بن والاس، ليصف الرئيس بوتين بأنه يعاني من "متلازمة الرجل
الصغير Small man syndrome"، وأنه "مجنون Lunatic"، ويتحدث رئيس الوزراء البريطاني، بوريس
جونسون، عن أن بوتين ما كان ليقدم على ما فعل "لو أنه كان امرأة"، ويعلن
رئيس الوزراء البلجيكي، ألكسندر دي كرو، أن حلف "الناتو" أبلغ الرئيس الأوكراني،
فلاديمير زيلينسكي، أن الصراع في أوكرانيا يجب أن يتم حسمه "بالوسائل العسكرية"،
فهل يمكن أن يؤكد ذلك على شيء سوى أن أوروبا تعيش أحلك أيامها السياسية، وأن من يجلسون
في مناصب الحكم فيها يبتعدون عن أدنى حدود الحكمة والرشد ناهيك عن اللياقة والأدب.
فكيف يمكن أن يصدر ما سبق عن إنسان عاقل رشيد متزن، وتلك على حق مصيبة ووبال على شعوب
القارة الأوروبية العجوز.
لكن، وفي الوقت نفسه،
فإن ذلك يؤكد على أن روسيا تحقق نتائج حقيقة على أرض المعركة، تثير كل هذا الغبار من
الهستيريا الصبيانية، والزج بمزيد من الأسلحة لإضرام مزيد من النيران في البلد الشقيق
المنهك أوكرانيا، والذي يرزح شعبه تحت حكم نازي لا يقل حماقة ولا ضراوة عن داعميه ومحركيه
في "الناتو".
إن هدف التصعيد من
قبل الولايات المتحدة الأمريكية والغرب ضد روسيا والصين هو السعي وراء وضع يمكن من
خلاله الحديث حول "تقاسم العالم"، فمع تطور أحداث العملية العسكرية الخاصة
في أوكرانيا، وصمود روسيا أمام أكبر حصار اقتصادي وسياسي في التاريخ، تدرك الولايات
المتحدة والغرب أنه لا يمكن أن يكون هناك منتصر في أي صدام عسكري بين الشرق والغرب،
لهذا السبب يرغب "الناتو" في فرض واقع جديد، يدفع روسيا نحو القبول بتقاسم
العالم بدلا من "التعددية القطبية" التي تسعى نحوها روسيا.
إلا أن روسيا، التي
هزمت الحصار، وتحقق إرادتها في أوكرانيا، لم تكن تنوي هزيمة الغرب، بل حاولت، على العكس
من ذلك استيعابه، والتوافق مع قواعده وقوانينه، ما كان ذلك ممكنا، وتحملت الكثير من
المصاعب والتحديات والعقوبات والاستفزازات، وسعت دائما نحو التوافق والعيش مع جيرانها،
لكن الغرب هو من رفع من لغة الإملاءات والتجاهل والرعونة، والتعامل بفوقية غير مبررة،
وحينما وصلت التهديدات إلى البوابة الغربية لروسيا، كان لا بد وأن تتخذ روسيا إجراءاتها
للدفاع عن سيادتها وإرادتها وأراضيها، وهو ما كان.
ما لم يتعلمه الغرب
طوال هذا الوقت هو أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليس شخصا، وإنما هو فكرة. فكرة
تتبناها الأمة الروسية الولادة، التي أنجبت بوتين، وتنجب وستنجب غير بوتين، من الزعماء
الذين يحققون أحلامها وأمانيها ويدافعون بصدق وإخلاص عن مصالحها وسيادتها وإرادتها.
المصدر// صحيفة رأي اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق