عن فلسطين.. وعنّا

د. حيدر سعيد

(1)

مرة أخرى، وعلى الرغم من استيقاظ الاهتمام بفلسطين وقضيتها، كما لم يحدث منذ عقود، ومع كمّ ما كُتب ويُكتَب عنها الآن، تضامنًا وتأييدًا، أو تعبيرًا عن موقف، أو تحليلًا ومحاولة للفهم، ثمة فشل يطغى على هذه الكتابات والمواقف، يبرز جليًّا وواضحًا، بغض النظر عن حجمه ومساحته بينها، أعني الفشلَ في رؤية فلسطين كما هي، لا من عدسة أزماتنا، على نحو ما يسيطر على كثير منا، أو بَعضنا. ولا أعني، هنا، أزماتنا الشخصية كأفراد، بل أزماتنا الجماعية في بلداننا، أو في مواقعنا حيث نكون.

دائمًا، كانت فلسطين كيسًا يُعبّأ بأزمات من خارجها: السلطويون العرب جعلوها ركنًا في تشييد سلطوياتهم، ومعارضوهم عدّوها جزءًا من الخطاب السلطوي، وحين سقطت تلك الأنظمةُ، لم يروا فيها إلا جزءًا من إرث السلطوية، فنكّلوا بالفلسطينيين في بلدانهم بسبب ذلك، الإسلاميون عدُّوا فلسطين فقرةً في إيديولوجيتهم، وطبعوا القضيةَ الفلسطينية بطابع ديني، والعلمانيون لم يروا من فلسطين إلا أداةَ خصمهم الإسلامي الصاعد والمدافع عنها، وبعضُ الليبراليين رأوْا أن تبني خطاب "إيجابي" تجاه إسرائيل هو الماء الذي تُعمَّد فيه ليبراليتهم، والبعض الآخر من الليبراليين كانت فلسطين بالنسبة لهم فضاءً للتعبير عن توجهاتهم المعارضة لتوجهات دولهم، ولا سيما تلك التي تتجه إلى التطبيع مع إسرائيل، والطائفيون وجدوا فيها فضاء لاستئناف سجالهم الطائفي، كل من موقعه يتجاذب خطابًا عن فلسطين مطبوعًا بمنظور طائفي.

وهكذا، كان الإنسان الفلسطيني يتوارى خلف أزماتنا، وتختفي ملامحُه، فلم نعد نبصر به، وقد استحال استعارةً عن عقدنا.

(2)

تمثل الحرب الأخيرة على غزة استمرارًا لهذا النهج في رؤية فلسطين بالواسطة. وقد كان المعطى الأكثر بروزًا الذي نُظر من خلاله إلى فلسطين في هذه الحرب، وحدّد المواقفَ من ثم، هو الموقف من إيران، فهناك من عدّها مأثرةً لمحور المقاومة، الذي تقوده إيران، وهناك من انتقد إدارة "حماس" للحرب، استنادًا إلى موقفه المسبق من إيران.

ولا يخفى على أحد الدور الإيراني في دعم المقاومة الفلسطينية، باعتراف المقاومة وإيران، غير أن اختزال ما جرى وتبسيطه بالدور الإيراني، سواء كان من منظور إيجابي أو سلبي، لا يضلّل الفهمَ فقط، بل ينتج خطابًا ديماغوجيًا عما يجري.

(3)

أحسب أن ما حدث في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 هو نقطة فاصلة في تاريخ القضية الفلسطينية (أو الصراع العربي الإسرائيلي، إن أحببت)، أو ينبغي له أن يكون كذلك. إنه إعلان فشل الاستراتيجية الإسرائيلية على نحو عام، وتجاه غزة على نحو خاص، فبعد ثلاثة عقود على معاهدة السلام مع الفلسطينيين، وبعد تحييد جيوش كبريات الدول العربية عبر مثل هذه المعاهدات، وبعد نحو عقدين من استراتيجية تحييد "حماس" عبر حصار غزة، بعد كل ذلك، تستيقظ إسرائيل على عملية نوعية، لم تشهد مثلها منذ عقود، ولم تقدر عليها الجيوشُ النظامية لأكبر الدول العربية مجتمعة.

ماذا يعني هذا؟

إنه لا يعني فشل الاستراتيجية الإسرائيلية فقط، على نحو ما قدّمت، ولا يعني فقط أن تحييد الدول وجيوشها لم يمنع ما يسمى في العلوم الاجتماعية "الفاعل اللادولتي Non State Actor"، ليكون هو المواجه الأساسي لإسرائيل، التي لم تعد تخشى تدخل جيش عربي، بقدر ما أنها باتت تواجه "حماس" في الجنوب، وتخشى في الوقت نفسه تدخل حزب الله في الشمال. وكل منهما يمكن تصنيفه، بقدر من التجوُّز، "فاعلًا لادولتيًا"، أي فصيل مسلح نشأ خارج إطار الدولة، وإن كان تداخل معها بقدر ما، وبنى قاعدة سلطة مناطقية، إلا إنه ليس تعبيرًا عن وحدة جهاز الدولة وقرارها السيادي.

ما تقدّمه الحربُ الأخيرة ليس هذه المؤشرات فقط، بل في قلب ذلك هي تكشف - بوضوح وصراحة شديدين - أن إسرائيل دخلت عمليةَ السلام بمنطق الغلبة الأمنية، وقد أهانت شريكَها الفلسطيني في التفاوض بأن حوَّلته إلى مجرد وكيل أمن، وباتت تسعى إلى مد جسور ما يسمى "التطبيع" مع بلدان عربية بعيدة، ولم تَخلق استراتيجية سلام مع مَن هم أهم وأولى من ينبغي لها أن تخاطبهم: الفلسطينيون، أعني: الفلسطينيين الشعب، والنَّاس، والأرض، لا الساسة، والزعماء، والخطابات.

هل فكّرت إسرائيل حقيقةً بالسلام؟ هل فكّرت حقًّا بحل شامل، غير منطق السلام القائم على الغلبة الأمنية؟ هل فكّرت بأن تنهي "حالة الاستثناء" عن العالم، التي يعيشها هذا الشعب، من دون كيان سياسي كامل ومستقل، كما العالم، ومن دون ما يستتبعه ذلك من حريات، وما يفضي إليه من وثائق وترتيبات، تصنع "مواطنة" الفرد منه في العالم؟ ألم يُفضِ منطقُ الغلبة الأمنية إلى أن يصبح الفلسطيني/ الإنسان لامفكرًا فيه في الإدراك الإسرائيلي، بما أن السلام يقوم على القوة، لا على تفاهم مع شريك ينبغي لك أن تفهمه؟

أجيال مرت من الفلسطينيين، وهم "حالة الاستثناء" عن العالم، محاصرين، محرومين، لم "تُطبّع" أوضاعهم يومًا، ولا يبدو أن ذلك سيكون قريبًا.

تطبّع الفلسطيني على الأفق المسدود. والحصيلة، أنه بعد كل تلك العقود من عملية السلام/ والقهر الأمني، لم يستطع الفلسطينيون أن يروا في الإسرائيليين (العسكريين والمدنيين) شعبًا يتفاهمون معه على صيغة سياسية للمستقبل، بل لم يروا فيه إلا ذلك الغاصب، المحتل، الذي تحق لهم مقاومته بكل الوسائل. وهكذا، لم يتغير شيء بالنسبة للفلسطينيين، يقتضي تغيير "قواعد الاشتباك".

أحسب أن ما حدث في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 هو نقطة فاصلة في تاريخ القضية الفلسطينية

(4)

وحتى بعد الحرب الأخيرة، لا يبدو أن إسرائيل استوعبت الدرس، فلم تفهم ما حدث إلا بوصفه خرقًا أمنيًا، لا يعالج إلا بالمزيد من القهر الأمني، ولم تملك إلا إظهار (أو إعادة إنتاج) صورة المنتقم، الساحق، الذي يضرب من دون اعتبار لقانون، أو قاعدة أخلاقية أو إنسانية. المهم البطش، وما يفرضه من سلام.

وكما في كل مرة، تريد إسرائيل أن تفرض سلامًا قائمًا على انكسار الفلسطيني (هل أذكّر بأن معاهدة أوسلو 1993 هي نتاج انكسار 1990/ 1991؟)، تريد أن تفرض على الفلسطيني سلامَ المهزوم، لا سلام الشريك، لتبقى إرادة الحل الشامل، من ثم، غائبة وبعيدة.

(5)

من هنا، حاجج البعض بأن العنف الذي أطلقته "حماس" لا يعني فقط تغلب موقف المقاومة على موقف التفاوض، بل يعني - انطلاقًا من "فهم آرندتي" - أنه عنف متأصل، له منطقُه الخاص، وهو الموقف الذي يريد أن يحجب عنا فهمَ العنف ووضعه في سياقاته، حتى وإن كنّا نتبنى موقفًا مبدئيًا أخلاقيًّا من العنف، على نحو ما حاججت جوديث بتلر مؤخرًا.

ولذلك، كان أي حديث عن "خلفيات" هذا العنف يبدو لهؤلاء المحاججين "تبريرًا".

بمنطق حنا آرندت نفسها، يعني العنفُ موتَ السياسة. ولذلك، لا يمكن فهم انفجار 7 تشرين الأول/ أكتوبر إلا بوصفه نتاجَ تراكم سنوات من الاحتقان والتأزم (شهدت، مثلًا من بين ما شهدت، أحداثَ القدس في 2021، وأحداثَ جنين في صيف 2023، وغير ذلك كثير)، إذ وصلت القضيةُ الفلسطينية إلى انسداد ولحظة عدمية، كانت تستشعره وتعبّر عنه حتى السلطة الفلسطينية في رام الله. ومن علائمه ليس فقط الصعود غير المسبوق لليمين في إسرائيل، وليس فقط فشل حل الدولتين، بل كذلك افتقاد أي رؤية أو أدوات للمضي إلى الأمام.

في هذا الفضاء العدمي، في فضاء السياسة التي ماتت، نشأ جيل فلسطيني جديد، لم يكن لديه خيار سوى أن يتلبّس - منذ لحظة ولادته - "حالةَ الاستثناء" عن العالم.

(6)

هل كان يصدّق أحد أن تكون مواقفُ الدول الغربية ومجتمعاتها ونخبها على هذا النحو؟

لا أقصد إدانة العنف والتعاطف مع المدنيين الإسرائيليين ودعم إسرائيل على نحو عام (وهذا متوقع)، ولكن الذهاب أبعد، بالتضييق على حرية التعبير، والضمير، وإظهار الهويات الدينية بشكل معلن، والتعامل مع الناس بشكل تمييزي قائم على الهويات الدينية والإثنية، وغض النظر عن حقوق ينبغي أن يتمتع بها مواطنو دول غربية يتحدرون من أصول عربية أو مسلمة، والسكوت على ضحايا العدوان الإسرائيلي من المدنيين، الذين بلغوا الآلاف، وما إلى ذلك الكثير، مما يتجاوز قيمًا كنّا نفهم أنها متجذرة في المجتمعات الغربية وثقافتها، فكيف انحدرت بلحظة واهتزت، بشكل يكاد يكون غير مسبوق، وكأن هذه المجتمعات باتت غريبةً عما أنتجته من قيم عبر تجربتها التاريخية، ولم تعد تُمارس منها إلا جانبًا محدّدًا، تختاره بشكل جزئي ومتحيز.

لا يتسع المجال، هنا، لتحليل "هلع" المجتمعات الغربية، الذي قادها (وإن جزئيًا) إلى التنكر لقيم الحداثة التي أنتجتها، والذي قد تمتد عواملُه من عقدة اليهود واللاسامية في أوروبا، منذ القرن التاسع عشر، مرورًا بالهولوكوست، وصولًا إلى تحديات التغيير الثقافي الذي تفرضه الهجرةُ الواسعة إلى المجتمعات الغربية. وبين هذين العاملين عوامل شتى ومعقدة بلا شك (وطبعًا، يستحق الأمر عَمَلًا بحثيًا وفكريًّا واسعًا وجادًّا).

ما أريد أن أخلص إليه، هنا، أنني - مع ذلك - لا أسير في الطريق التي يسير فيها بعض زملائي من المثقفين العرب، من اعتبار العدوان الإسرائيلي على غزة وطبيعة الاستجابة الغربية له دليلين على زيف قيم الحداثة. بلا شك، لا تخلو الحداثةُ من شرور (التي كان الهولوكوست منها، بل هو تجسيد لمنطقها، حين واجهت القوميةُ الأوروبية الحديثة المشكلةَ اليهودية، بحسب زيغمونت باومان)، ولكن الحداثة، الآن، ليست مجرد تجربة تاريخية مرت بها المجتمعاتُ الغربية، وشهدت منعطفات وتعرّجات عدة، صعودًا وهبوطًا، بل إنها جُرِّدت بوصفها قيمًا، يمكن أن تكون قيمًا بشرية عامة، وإن أُنتجت في الغرب في لحظة مهمة من لحظات تطور الحضارة البشرية.

وهكذا، سيكون من الجيد في الأمر أن تتحول قيمُ الحداثة إلى قيم متعالية، ترانسندتالية، وليست مجرد ممارسات، ونستطيع أن نتعامل مع هذه القيم ونجعل منها معيارًا، لقياس السلوك الغربي، الذي قد يشط عنها في بعض الأحيان. وهذا بالضبط هو ما يحرّر الحداثةَ من منبتها الغربي، ويجعلها قيمة بشرية، يتشاركها الجميع، من دون سطوة أو هيمنة.

(7)

حين ذاك، حين نضع المسألةَ في هذا الإطار، لن تعود المسألة "حماس" أو "فتح"، إسلامية المقاومة أو علمانيتها، التقديم والتأخير بين أولوية المقاومة أو التفاوض. ستبدو كل تلك الأمور تفصيلات صغيرة بإزاء المسألة الأساسية: فلسطين.

لتصفح مجلة دجلة الخير الشهرية العامة - العدد الثاني - تشرين الثاني 2023 PDF اضغط هنا

جميع ما ينشر في هذه المدونة للكاتب والصحافي نوري حمدان وهي متاح لجميع المؤسسات الاعلامية في استخدام. يتم التشغيل بواسطة Blogger.