متى تنتهي الحرب؟ تخبط ستولتنبرغ وكيسنجر
الكاتب والمحلل السياسي - رامي الشاعر
اعتبر الأمين العام لحلف "الناتو"،
ينس ستولتنبرغ، أن الحرب في أوكرانيا قد تستمر لفترة طوية، مع قناعته بأنها سوف
"تنتهي على طاولة المفاوضات". كذلك أعرب هنري كيسنجر عن دعمه للجهود العسكرية
التي يبذلها الحلفاء لإحباط ما أسماه "العدوان الروسي على أوكرانيا"، إلا
أنه، وفي الوقت نفسه، قال إن الوقت يقترب للبناء على التغييرات الاستراتيجية التي تم
تحقيقها بالفعل، ودمجها في هيكل جديد نحو تحقيق السلام من خلال المفاوضات.
متى تنتهي الحرب؟
سؤال يطرحه الجميع، دون أن يتفقوا على معنى
كلمة "الحرب" بالأساس، بمعنى أن ستولتنبرغ وكيسنجر يتحدثون عن "مفاوضات"
تنتهي بها "الحرب"، دون أن يكون لدى الرجلين تصور عن أرضية التفاوض التي
يمكن للطرفين الانطلاق منها، ولا سقف التفاوض، ولا آليته، ناهيك عن أن مفهوم الحرب
التي يتحدثون عنها يختلف اختلافا جذريا عن العملية العسكرية الخاصة التي تخوضها روسيا
في أوكرانيا.
بمعنى أن السيد كيسنجر يتحدث عن أوكرانيا
"كدولة رئيسية في وسط أوروبا لأول مرة
في التاريخ الحديث"، ثم ينهي الجملة بـ "مساعدة الحلفاء"، وهو ما ينفي
استقلال هذه "الدولة الرئيسية"، و"إرادتها السياسية"، ويوسع نطاق
الصراع إلى حجمه الحقيقي بين روسيا والغرب على أراضي أوكرانيا وبأيدي الضحايا من أبناء
الشعب الأوكراني المغرر به، والذي يساق إلى مذبح "الحرية والديمقراطية" على
الطريقة الغربية، أي أن الصراع ليس بين روسيا وأوكرانيا، والقاصي والداني يعلم ذلك،
إلا أن ستولتنبرغ وكيسنجر لا زالا يراوغان ويطلقان شعارات "العدوان الروسي"،
و"الحرب الأوكرانية"، دون أن يذكرا ما جرى خلال السنوات الثماني الماضية،
أو ما جرى منذ عام بالتمام والكمال حينما عرضت روسيا ضماناتها الأمنية الواضحة والمحددة،
والتي كانت لتحمي الجميع مما حدث بعد ذلك في فبراير من العام الجاري.
لم يلتفت أحد إلى مخاوف روسيا، ولا إلى
التهديدات التي تواجهها، والتي اتضحت تماما بمجرد اندلاع الحرب، وانكشاف مدى اتساع
وتعقيد البنى التحتية الغربية التي بناها "الناتو" في أوكرانيا، وفضح ما
أعلنت عنه ميركل مؤخرا من أن اتفاقيات مينسك لم تكن سوى ذريعة لكسب مزيد من الوقت لإعداد
أوكرانيا للمشهد الأخير للصراع.
والصراع واضح والهدف جلي، روسيا بعد الاتحاد
السوفيتي، حيث لا يصح أن تظل روسيا على هذا القدر من الاستقلال والندية والقدرة على
اتخاذ قراراتها التي تتعارض في كثير من الأحيان مع مصالح الغرب، وحان الوقت لتفتيت
وتدمير روسيا بمساعدة القوميين المتطرفين الذين اعتلوا السلطة في أوكرانيا في غفلة
من الزمان، بانقلاب غير دستوري، دعمه ورتبه ونسق آلياته الغرب، الذي أعلن حربه الضروس
ضد روسيا وكل ما هو روسي.
حدث ذلك من خلال توجهات قومية بدأت هادئة
منذ 30 عاما، وانتعشت في الثورة البرتقالية عام 2004، ثم تحولت إلى حرب ضد كل ما هو
روسي في انقلاب عام 2014 وما تلاه.
ولكني أعاود طرح السؤال مرة أخرى: متى تنتهي
الحرب؟
تنتهي الحرب حينما تكون تكلفة الحرب قد
أصبحت أغلى من تكلفة السلام، بمعنى أن ينتصر أحد الطرفين، وتصبح تكلفة الحرب بالنسبة
للمنهزم أغلى بكثير من تكلفة السلام، وهو واقعيا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية
حينما استسلمت إمبراطورية اليابان في 2 سبتمبر 1945.
وما يطرحه السيد كيسنجر ببساطة هو أن تعريف
"النصر" الأوكراني قد أصبح مستحيلا على الأرض بكل المقاييس والمعايير، وحديث
زيلينسكي بشأن وحدة الأراضي الأوكرانية أصبح حديث مراهقة سياسية لا أكثر، ولا أحد سيتفاوض
مع زيلينسكي لا بشأن القرم أو دونيتسك أو لوغانسك أو زابوروجيه أو خيرسون. وما يقوله
كيسنجر بشأن "إحباط أوكرانيا للقوات التقليدية الروسية التي كانت تخيم على أوروبا
منذ الحرب العالمية الثانية" هو حديث يفتقر إلى الدقة، وانضمام أوكرانيا إلى
"الناتو" هي الأخرى أصبحت مسألة حياة أو موت بالنسبة لروسيا، في الوقت الذي
يقول كيسنجر إن "عملية السلام" لا بد وأن ترتبط بانضمام أوكرانيا إلى
"الناتو".
إذن، ستولتنبرغ يقول إن الصراع قد يستمر
لفترة طويلة، وهو يعني أن الحلف سيواصل توفير الأسلحة والمعدات العسكرية لأوكرانيا،
ويرفع من رهاناته على ما تبقى من القوات المسلحة الأوكرانية المنهكة والتي تكبدت خسائر
بشرية ضخمة، ناهيك عن البنى التحتية للمدن الأوكرانية، والتي سيستهلكها الحلف في الصراع
حتى يجهز على الدولة الأوكرانية بالكامل.
في نهاية المطاف، يعترف ستولتنبرغ بقدر
وإمكانيات روسيا حيث يقول: "يجب ألا نستهين بروسيا، ويجب أن نفهم أن الرئيس فلاديمير
بوتين مستعد لخوض هذه الحرب لفترة طويلة وشن هجمات جديدة"، إلا أن الوهم كل الوهم
أن يظن السيد ستولتنبرغ ومن وراء السيد ستولتنبرغ أن "أسرع طريقة لانتصار أوكرانيا
كدولة مستقلة وذات سيادة هو تقديم الدعم العسكري حتى يدرك الرئيس بوتين أنه لا يمكنه
الانتصار في ساحة المعركة، ويجب عليه أن يجلس ويتفاوض بحسن نية".
لذلك يبدو ما يطرحه كيسنجر السياسي المخضرم
يعجز عن فهمه ستولتنبرغ، وحينما يطرح كيسنجر مسألة الاستفتاءات في بعض المناطق المنضمة
حديثا إلى روسيا، واللجوء إلى مسألة حق تقرير المصير، فهو يتحدث عن الواقع على الأرض،
مدركا مدى فداحة الهزيمة التي لحقت بالجيش الأوكراني، على الرغم من بعض "الانتصارات
المحدودة"، في منطقة خاركوف أو خيرسون، وهي انتصارات مؤقتة وانسحابات تكتيكية،
على وشك أن تنتهي بهزيمة مدوية، مع استعداد الجيش الروسي للهجوم مرة أخرى، بالتزامن
مع إنهاك الجيش الأوكراني، دون وجود أي أفق لمزيد من التعبئة لدى الجيش الأوكراني.
في الوقت نفسه تمتلك روسيا إمكانية تعبئة
عامة تصل إلى 20 مليونا، علاوة على قاعدتها الصناعية العسكرية الضخمة، والموارد القادرة
على إدارة هذه المؤسسات باستدامة لسنوات، وهو ما يعني أن لدى روسيا القدرة ليس فحسب
على الانتصار على أوكرانيا، بل وتحويل أي من الدول أو التحالفات التي تتآمر ضدها إلى
مستنقعات صعبة ومعقدة، ما يعني أن الجيش الروسي سوف يتمكن من الاستمرار في الصراع،
حتى تحقيق أهدافه الاستراتيجية النهائية مهما طال الوقت، ومهما اختلفت الجغرافيا.
ما يعرضه كيسنجر، وربما يحين الوقت للتفاوض
بشأنه يطرح الواقع على الأرض كورقة من بين أوراق التفاوض، وهو ما يختلف جذريا عما يفكر
فيه زيلينسكي وستولتنبرغ اللذان يعيشان أوهام "النصر"، والأسلحة طويلة المدى
التي يمكن أن تضرب العمق الروسي، وغيرها من هلاوس.
لقد اعترف كيسنجر، بأن الولايات المتحدة
الأمريكية كانت بالفعل وراء جميع الأحداث الأخيرة في أوكرانيا، وبسعيها لبناء حليف
استراتيجي لها في أوروبا تماما كما فعلت في زرع إسرائيل في الشرق الأوسط، لذلك فليس
من قبيل المصادفة أن يتم التنسيق بشأن جميع الضربات التي توجهها راجمات الصواريخ
"هيمارس"، أو طلعات الطائرات المسيرة، التي تصنع المكونات الإلكترونية لها
في الولايات المتحدة الأمريكية، مع "البنتاغون"، وبواسطة الأقمار الصناعية
العسكرية للحلف.
الآن يطرح كيسنجر التفاوض، وهو ربما ما
يدور في أروقة السياسة بالولايات المتحدة، إلا أن القوميين الأوكرانيين، فيما نرى ونسمع،
قد أسكرهم جنون الحرب، ويتوهمون قدرتهم على "استعادة" القرم ويجعلون من ذلك
تعريفا لـ "النصر" من وجهة النظر الأوكرانية، وهو العبث بعينه.
أعتقد أن بداية حل الأزمة الأوكرانية في
الاتفاق على معاني كلمات "الحرب"، "النصر"، "الهزيمة"،
"التفاوض"، والبحث عن أرضية مشتركة لهذه المفاهيم بين الأطراف، بعدها يمكننا
الدخول في حوار بشأن مفاهيم "حق الشعوب في تقرير المصير"، و"سيادة الدولة
على أراضيها".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق