20 عاما على قرار غزو العراق وواشنطن تواصل انتهاك القانون الدولي

عراق دُمر بالكامل

مرت الذكرى العشرون لصدور قرار الكونغرس الذي فوض القوات العسكرية الأميركية وحلفاءها استخدام القوة ضد العراق لإسقاط النظام الدكتاتوري السابق. ويعرف التفويض بـ"قرار العراق" الذي صدر عام 2002 كقانون عام حمل الرقم 107 - 243، ليسمى لاحقا "عملية تحرير العراق" ويشكل منعطفا خطرا في مصير البلاد والمنطقة بأسرها.

إن قرار الحرب الذي جاء وفق مقاسات حكومات الغرب لا لتطلعات الشعب العراقي التواق إلى الحرية، أسفرت وفق بعض التقديرات عن مصرع حوالي 800 ألف إلى مليون و300 ألف مواطن، فضلا عن تداعيات كارثية دمرت كل شيء تقريبا وولدت عملية سياسية مشوهة تقوم على الفساد ومفاهيم اللادولة.

وفي حلول الذكرى العشرين لهذا القرار، أجرت منظمة Truthout وهي منظمة إخبارية غير ربحية مهتمة بتقديم التقارير المستقلة التي تركز على قضايا العدالة الاجتماعية، مقابلة موسعة مع العالم الأميركي نعوم تشومسكي، لمشاركة آرائه بشأن أسباب هذه الحرب وتداعيات جريمتها المروعة ضد الإنسانية.

تشومسكي بروفيسور فخري في قسم اللغويات والفلسفة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا واستاذ اللسانيات الحاصل على جائزة Agnese Nelms Haury في برنامج البيئة والعدالة الاجتماعية في جامعة ايرزونا. هو أحد أكثر العلماء الذين يستشهد بهم: مثقف شهير جدا يعتبره الملايين كنزا وطنيا ودوليا.

ويملك هذا العالم المهتم بشؤون الشرق الأوسط ويهاجم باستمرار السياسات الغربية الاستعمارية، أكثر من 150 كتابا منشورا في علم اللسانيات، الفكر السياسي والاجتماعي، الاقتصاد السياسي، الدراسات الاعلامية، السياسة الخارجية للولايات المتحدة والشؤون الدولية.

وبالإضافة إلى ذلك، يولي تشومسكي الذي سيدخل عامه الخامس والتسعين، اهتماما خاصا بالشأن العراقي ولديه الكثير من النتاجات بشأن قضاياه. بينما يمثل كتاب “مداخلات” أحد أبرز المطبوعات التي أصدرها لمناقشة التناقضات الغربية بخصوص احتلال العراق وما بعده.

اعتراضات خجولة على الحرب المدمرة

20 عاما مضى على تفويض الكونغرس بغزو العراق رغم الاعتراضات الكبيرة. العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين البارزين انتهى الأمر بهم بإسناد الحرب، بضمنهم جو بايدن. للمقاصد التاريخية والمستقبلية، ما هي أسباب وتداعيات هذه الحرب؟

تشومسكي: هناك أنواع عديدة من الإسناد لهذه الحرب، تتراوح من الصريح الى الضمني. أن النوع الأخير يتضمن هؤلاء الذين يعتبرونها ليس أكثر من (خطأ استراتيجي فاحش) كما رأى اوباما. كان هناك جنرالات نازيون عارضوا قرارات كبرى لهتلر واعتبروها “اخطاء استراتيجية فاحشة”. لا نقدر أن نعتبرهم معارضين للعدوان النازي.

اذا استطعنا ان نرتقي إلى مستوى الالتزام بالمعايير التي نطبقها على الآخرين، حينها سندرك أنه لم يكن هناك سوى معارضة مبدئية قليلة داخل مراكز صنع القرار بشأن الحرب على العراق، بضمنها الحكومة والطبقة السياسية. كما هو الحال مع قضية الحرب الفيتنامية وغيرها من الجرائم الرئيسة.

بالطبع، كانت هناك معارضة شعبية قوية. لدي تجربة خاصة معها في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. دعا الطلبة إلى تعليق الدروس ليتسنى لهم المشاركة في التظاهرات الشعبية الضخمة قبل أن تندلع الحرب على العراق بشكل رسمي. أنه شيء جديد في تاريخ الإمبريالية، ولاحقا حصل لقاء في كنيسة وسط المدينة لمناقشة الجريمة الوشيكة وما الذي تنذر به.

الأمر ذاته كان في جميع انحاء العالم، لدرجة أن “دونالد رامسفيلد” خرج مع تمييزه الشهير بين أوربا القديمة وأوربا الجديدة. أن أوروبا القديمة وفق رأيه هي الديمقراطيات التقليدية، الموضة القديمة المحافظة من حيث الأفكار والآراء، والتي لا يتفق معها الأمريكيون بسبب غرقها في المفاهيم المملة، مثل القانون الدولي، الحقوق السيادية وغيره من الكلام الفارغ الذي عفا عليه الزمن، على حد تعبيره.

أما أوروبا الجديدة فهي شيء مغاير، هي الأخيار: مجموعة قليلة من الدول التي كانت تابعة إلى روسيا في السابق، تتبع الآن أثر واشنطن. وإحدى الديمقراطيات الغربية هي إسبانيا، عندما انحاز رئيس وزرائها في ذلك الحين، “خوسيه ماريا أزنار” الى جانب واشنطن، متجاهلا الأغلبية المطلقة من آراء شعبه. مقابل هذا الموقف، كوفئ لاحقا بدعوته للانضمام مع “جورج بوش” و”توني بلير” اللذين أعلنا عن غزو العراق. أن هذا التمييز يعكس تقاليدنا العميقة المهتمة بالديمقراطية!

من أسلحة الدمار إلى دمقرطة العراق

ويضيف تشومسكي قائلا: “سيكون من المثير للاهتمام اذا رأينا “بوش” و”بلير” يستضافان في مقابلات صحفية بهذه المناسبة “الميمونة”.

نعم، رأينا “بوش” في مقابلة لمناسبة الذكرى العشرين لاحتلاله افغانستان، والذي يمثل فصلا آخر من العدوان المجرم الذي عورض بأغلبية ساحقة من الرأي الدولي على عكس بعض الادعاءات، وهي قضايا ناقشناها سابقا. كان “بوش” في مقابلة مع الواشنطن بوست، في قسم الاناقة، حيث كان يتظاهر مثل الجد الأبله المحبوب، يلعب مع أحفاده ويتباهى بمجموعته الصورية مع المشاهير الذين قابلهم.

بالنسبة للغزو الأميركي – البريطاني للعراق، كان له سبب رسمي يمثل “سؤال واحد” مثلما تسميه الجهات العليا: “هل سينهي العراق برنامج أسلحته النووية؟”. تساءل المفتشون الدوليون ما إذا كانت هناك مثل هكذا برامج، وطالبوا بالمزيد من الوقت للتحقيق لكن طلبهم رفض.

أن الولايات المتحدة الأميركية ونائبها بريطانيا تواقان إلى الدم. أشهر قليلة مضت بعد ذلك وتمت الإجابة بالطريقة الخائطة على “السؤال الواحد” الذي طرح بشأن الاحتلال.

أن الجواب الخاطئ على هذا السؤال يتطلب تغيير الخطاب بالتأكيد. فقد كان من المفاجئ اكتشاف أن السبب الرئيس للغزو لم يكن “السؤال الواحد” والإجابة عليه، بل بالأحرى امنيتنا الجياشة لجلب بركات الديمقراطية الى العراق.

قام أحد الباحثين المهمين في شؤون الشرق الأوسط “ أوغست ريتشارد نورتن” بكسر هذه النمطية ووصف ما حدث. كتب هذا الباحث قائلا: “بعد كشف أساطير أسلحة الدمار الشامل العراقية، شددت إدارة بوش بشكل متزايد على التحول الديمقراطي العراقي. ومقابل ذلك، سرعان ما قفز الباحثون إلى عربة الدمقرطة”، كما فعلت وسائل الإعلام الموالية ومجموعة المعلقين المؤثرين كالعادة.

وفي هذا السياق، وجد استفتاء “غالوب” أن بعض العراقيين قفزوا أيضا إلى العربة ذاتها: واحد في المائة منهم شعروا أن هدف الغزو كان لجلب الديمقراطية. خمسة في المائة اعتقدوا أن غايته “مساعدة الشعب العراقي”. أما الأغلبية من النسبة المتبقية فقد افترضت أن الهدف الرئيس هو للسيطرة على موارد العراق وإعادة ترتيب الشرق الأوسط وفق المصالح الأميركية – الإسرائيلية “نظرية المؤامرة” التي هزأ منها العقلانيون الغربيون الذين يرون أن واشنطن ولندن كانتا ستكرسان جهديهما على “تحرير العراق” لو كانت مصادره هي الخس والمخللات وأن مركز الوقود الأحفوري كان في جنوب المحيط الهادئ.

سعت الولايات المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2007 إلى اتفاقية وضع القوات. أعلنتها إدارة بوش بوضوح: طالبت بامتياز لوصول شركات الطاقة الغربية إلى مصادر الوقود الاحفوري العراقي. وطالبت أيضا بحق تأسيس قواعد عسكرية امريكية في العراق. الطلبات صادق عليها بواسطة جورج بوش في “بيان التوقيع” في يناير/ كانون الثاني اللاحق لكن الطلب رفض من قبل البرلمان العراقي.

تداعيات الحرب هائلة

وعن تداعيات الحرب الأميركية على العراق، يرى تشومسكي أنها “تضاعفت”. دُمر العراق بالكامل. أن الذي حصل بحق العراق الذي شهد قبل عقود تقدما ملحوظا في العالم العربي، هو حطام بائس.

حرض الغزو الأميركي على الصراع الطائفي الذي لم يره العراقيون سابقا. ليس العراق وحده، بل المنطقة بأسرها تمزقت نتيجة هذا القرار، داعش برز فجأة من الحطام وأصبح على وشك الاستحواذ على البلد بأكمله في ظل وجود جيش عراقي مدرب ومسلح من قبل الولايات المتحدة الأميركية.

ولا أي أمر من هذا القبيل يمثل شيئا بالنسبة للجد الأبله المحبوب (بوش)، أو الطبقات المتعلمة في الولايات المتحدة التي تعجب به كرجل دولة رصين يدعى للحديث بتفاخر عن الشؤون العالمية. ردة الفعل على الكارثة تشبه إلى حد كبير ردة فعل “زبغنيو بريجينسكي” وهو (مستشار الأمن القومي السابق) عند سؤاله عن تبجحه بسحب الروس إلى أفغانستان ودعمه للجهود الامريكية لإطالة الحرب فيها ومنع جهود الامم المتحدة لمفاوضة الروس من أجل الانسحاب. “لقد كان نجاحا باهرا”، هكذا يشرح الأمر “بريجينسكي” لمقدمي البرامج الساذجين ويقول أن الحرب حققت هدف الإضرار الفادح بحق الاتحاد السوفيتي. ذكر ذلك بصورة مثيرة للارتياب خلال تسليمه بأنها خلفت القليل من “المسلمين المهتاجين” في إشارة منها إلى المتطرفين، فضلا عن مليون جثة وبلد مدمر. أو أن الأمر مثلما ذكر الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأميركية “جيمي كارتر” الذي قال “أننا لسنا مدانين إلى الفيتناميين لأن (الدمار كان مشتركا)”.

ردود الفعل الغربية مختلفة جدا بين الحرب الأميركية على العراق والحرب الروسية على أوكرانيا. بينما لم نر عقوبات فرضت على واشنطن: لا تجميد أصول للأقلية الأميركية الحاكمة، ولا مطالبات بتعليق عضوية واشنطن في مجلس الأمن الدولي. ما تعليقك؟

تشومسكي: لا حاجة للتعليق على ذلك. أن أسوأ جريمة منذ الحرب العالمية الثانية كانت حرب أميركا الطويلة ضد الهند الصينية. لا يمكن التأمل بشأن توجيه اللوم تجاه الولايات المتحدة. كان من الواضح لدى الأمم المتحدة أنها إذا ناقشت كثيرا هذه الجرائم فأن الولايات المتحدة سوف تفككها بكل بساطة.

أن الغرب يدين بطريقة اخلاقية ضم بوتين للأراضي الأوكرانية، ويدعو لمعاقبة هذا الفعل الذي يصفه بالهتلري، لكنه لا يجرؤ على الاحتجاج عندما تفوض الولايات المتحدة عمليات الضم الاسرائيلية غير الشرعية لمرتفعات الجولان السورية والقدس الكبرى، والضم غير الشرعي المغربي للصحراء الغربية. انها قائمة طويلة، والاسباب واضحة جدا.

كيف كانت ردة فعل واشنطن عندما دانت المحكمة الدولية البلاد المقدسة (أميركا) بسبب الإرهاب الدولي (الاستخدام غير القانوني للقوة) في عام 1986 في نيكاراغوا؟ أمرت المحكمة أميركا بقطع جرائمها هناك ودفع تعويضات جوهرية للضحايا، ومقابل ذلك صعّدت واشنطن جرائمها والصحافة تجاهلت هذا الحكم وكأنه بلا قيمة لأن المحكمة بنظرها عبارة عن “منتدى عدائي” بحسب (صحيفة نيويورك تايمز). لقد مسح الامر بالكامل من التاريخ، بضمنها حقيقة ان الولايات المتحدث حاليا هي الدولة الوحيدة التي ترفض قرار المحكمة الدولية، بالطبع مع الإفلات من العقاب دوما.

نحن نرى الآن كيف يتم ازدراء القانون الدولي، باستثناء استخدامه كسلاح ضد الاعداء. تمت اعادة صياغته ليكون المطالبة بـ “نظام دولي مبني على القواعد” حيث يصوغ الاب الروحي (أميركا) هذه القواعد، ليحل بديلا لنظام الامم المتحدة القديم الذي يمنع سياسات واشنطن.

ما الذي كان سيحصل لو رفض الكونغرس المضي مع ادارة بوش في غزو العراق؟

تشومسكي: لو رفض الكونغرس المضي مع ادارة بوش في هذا القرار، كنا سنرى وسائل أخرى لتحقيق الاهداف التي وضعها تشيني – رامسفيلد – وولفويتز وغيرهم من الصقور.

الكثير من الوسائل متاحة: التخريب، النشاط الهدام، الإثارة (أو تصنيع) بعض الحوادث التي يمكن استخدامها كذريعة للانتقام. أو ببساطة اطالة أمد نظام العقوبات القاسي الذي كان يدمر السكان.

قد نتذكر أن كلا من الدبلوماسيين الدوليين البارزين الذين أداروا برنامج “كلينتون” استقالوا احتجاجًا (عبر الأمم المتحدة)، وأدانوه باعتباره “إبادة جماعية”.

ترجمة: سيف زهير

جريدة طريق الشعب

جميع ما ينشر في هذه المدونة للكاتب والصحافي نوري حمدان وهي متاح لجميع المؤسسات الاعلامية في استخدام. يتم التشغيل بواسطة Blogger.